كتاب الراىمنوعات

الله يستر، والله يعفو / وشم في الذاكرة

الميزان / الرباط: ذ . اليوسفي حاميد

almizan.ma

وأنت جالس رفقة بعض الأصدقاء في المقهى، ترى نفس المتسولين الذين يترددون على نفس الزبائن بشكل يومي. فريق في الصباح، وفريق في المساء. لتلبية طلباتهم تحتاج إلى ماكينة لصنع النقود المعدنية.
تحمل إحدى المتسولات شهادة طبية في غلاف بلاستيكي، مرت عليها سنوات، وهي لم تتمكن بعد كل هذه المدة من اقتناء الدواء.
متسول تقطّع به الحبل*، يحمل حقيبة السفر كل يوم، وينتظر الحافلة التي ستعيده الى أهله ولم يجمع ثمن التذكرة بعد مرور أكثر من عام ونصف.
معتوه عيناه ضيقتان، ويتظاهر بأنه قليل النظر، لن تسلم من لسانه سواء تصدقت عليه أو لم تفعل. فبمجرد ما يتجاوز المقهى يَشبَعُ سبا وشتما في زبائنها. يتنقل يوميا بين أحياء المسيرة وجيليز، ويصل حتى الحي المحمدي .
فتيات في مقتبل العمر، بعضهن جميلات، لكن لا يظهر الفقر على أجسامهن المكتنزة. يلبسن جلابيب ضيقة، تخفي وتظهر فتنة النصف الأسفل من الجسد، ويستعملن الخمار. يوزعن أوراقا متشابهة مطبوعة، يضعنها فوق الطاولات، يلخصن فيها مشاكلهن: الأب متوفى، والأطفال يحتاجون إلى الطعام والملابس، والأم مريضة ولا تملك ثمن الدواء. نفس المطبوع، ونفس المشاكل. تقول لنفسك:
ـ لو كنت مكانهن لفضلت العمل في البيوت. ومن يضمن ألا يتعرضن للتحرش؟ التحرش موجود في المقهى والشارع ومقرات العمل أكثر من المنازل. النساء في المغرب ذكيات، ويمكن أن يكتشفن أي حركة مشبوهة في البيت!
الله يستر، بدأت تسمع في الآونة الأخيرة أخبارا تشبه الأفلام الهندية. بعض النماذج من هؤلاء الفتيات يفكرن بمنطق الطوفان. يقلن مع أنفسهن لماذا نترك هذه اللعينة، ويقصدن ربة المنزل، تعيش في كل هذا النعيم. لنبدأ معها حرب مشروع الزوجة الثانية. الخير في هذا البيت وفير. إما أن ترضى بمنطق القسمة، أو تجمع حقائبها وترحل. لم تعد أفهم شيئا. من يمدّ يده للناس في المقاهي والشوارع، قد يفعل أكثر من ذلك! الله يستر.
بعض الأفارقة وجدت لهم العذر. قلت هؤلاء غرباء تفرقت بهم السبل. ويجوز مساعدتهم من حين لآخر.
عادت بك الذاكرة سنوات إلى الوراء. تذكرت وأنت طفل، صورة عائشة ريال، أشهر متسولة في تاريخ جامع الفنا. امرأة في أواسط الأربعينات ترتدي قميصا باليا مُمزّقا ومُتسخا. شعرها مقصوص، ورأسها عار. تعرج بإحدى رجليها، وتلوي إحدى يديها لتظهر جسدها في حالة إعاقة. لا أحد يستطيع ان يميز إن كانت معاقة بالفعل، أو أن ما تقوم به من حركات مجرد تمثيل. يسيل اللّعاب من فمها على ذقنها، وينزل إلى صدرها. تبدو في مظهر مقزز، يخيف الأطفال والنساء. تطوف ساحة جامع الفنا في النهار. وفي المساء تقف بالقرب من باب القصابين، وأحيانا تقطع إلى باب فتوح، ثم تعود من نفس الطريق أمام قاعة الزيت. لا تطلب سوى ريال على الله. تعرف كيف تصطاد الزبائن، خاصة البدويين الذين يزورون المدينة. تحاصرهم وتمسك بجلابيبهم، ولا تخلي سبيلهم حتى تأخذ منهم ريال على الله. يبتسمون عندما تشد بتلابيب ثيابهم. ويتحدثون إليها أحيانا، وهم يستجيبون لطلبها. عبارة واحدة تخرج من بين شفتيها المتشققتين: (ريال على الله). ما تبقى كأنك تستمع إلى صوت إنسان أبكم. عندما يعودون الى قراهم يتحدثون عن عائشة ريال. أصبحت معلمة حضارية بالنسبة إليهم. من زار المدينة ولم ير عائشة ريال كأنه لم يزر مراكش.
البعض الأخر يعتقد أنها تنام على ثروة كبيرة. والبعض يحكي بأنها تنتمي إلى أسرة ميسورة، وأن ابنتها متزوجة من رجل غني. زارتها غير ما مرة بساحة جامع الفنا لأخذها إلى البيت، وكانت دائما ترفض الذهاب معها.
خمسة أو ستة متسولين عُميان يأتون في أوقات الذروة، ويجلسون مصطفين عند أول انعطافة من ساحة جامع الفنا أمام بائعات القُفَف والطّْبيقات. بالقرب من سوق اطلع واهبط . يلبسون جلابيب صوفية في الشتاء، و(دراعات) من ثوب شفاف في الصيف. كل واحد منهم يغطي رأسه بطاقية، ويحمل آنية من خشب أو نحاس. يقرؤون القرآن بأصوات خشنة، وأحيانا يرددون معا نفس العبارات بصوت عال:
ـ صدقة على الوالدين اليوم ليلة الجمعة يرحمهم سيدي ربي.
كلما سقطت قطعة نقدية في آنية أحدهم إلا ويقدمها لقائدهم أو الأعمى الذي ينسق بينهم. بعد آذان العشاء ينصرفون إلى زاوية سيدي بلعباس قبل إقفال أبواب الأسواق التي يمرون منها. يمشون ببطء واحدا خلف الآخر. يتقدمهم زعيمهم أو منسقهم. ربما كان يرى بصيصا من نور. كل منهم يضع يده على كتف زميله، واليد الأخرى يشد بها العكاز. وقد لا يسلمون من شغب الأطفال، وهم يمرون من خمسة أو ستة أحياء شعبية.
بين متجر باطا، ومقهى الشرق المقابلة لجامع خربوش، يجلس متسول من نوع خاص. يفترش جلبابه، ويشتم شخصا في الخيال، وينعته بأقبح النعوت التي تخدش حياء السامع. ويستمر في السب والقذف من طلوع الشمس إلى آذان العشاء. وعند ختام جلسته، بينما هو يجمع الفراش الذي يجلس عليه، يحدد هوية الشخص الذي يشتمه، وهو والده! العديد من الناس الذي يتصدقون عليه طيلة النهار لا يعلمون ذلك.
في أسواق السمارين والصباغين والصوافين يمر رجل أربعيني يدعوه الصناع ب(مشقاف). يحمل كل يوم (طنجية) في يده، يرمي فيها الخضر التي يتصدق عليه بها بعض بائعي الخضر او قطع اللحم الصغيرة وغير المرغوب فيها التي يجود بها الجزارون. يقف أحيانا بباب دكان خياط الالبسة التقليدية للنساء (القفطان والتكشيطة والجلباب). يحل محل متعلم صغير يشد الخيط للمعلم على مسافة قريبة من باب الدكان. (مشقاف) عندما يمر من السوق يمشي دائما مذعورا. رواد السوق من أبناء البلد يستفزونه ببعض العبارات السوقية، أو يصفعونه على سطح رأسه الحليق (يقدحونه). يحزم قميصه من الوسط ويُقصّره حتى الركبتين. يمشي سريعا وحافيا.
أخطرهم وأعنفهم رجل أطلق عليه المراكشيون لقب (ذهب الكلب)، يمر دائما من سوق السمارين أو باب فتوح. قوي البنية، طويل القامة، يمشي بسرعة حافي القدمين. يصفع بقوة من يجده أمامه على قفاه وفي غفلة منه حتى يقفز من مكانه. البعض يراه قادما فيتحاشاه، ويفسح له الطريق.
الصاروخ! هذا ألطفهم. شاب نحيف طويل القامة، يمشي هو الآخر حافيا معروف في حي سيدي اسحاق والرحبة. تراه دائما مبتسما. يحب النساء والفتيات، ويتحرش بهن خاصة في فصل الصيف. ولأنه طويل القامة، فهو يرمي ببصره إلى صدورهن، ويحاول إدخال يده لتحسس نهودهن، فيهربن منه، و يتراجع وهو يضحك.
في محطة الحافلات أصناف متخصصة من المتسولين، وباعة الأعشاب. كل العاهات التي لا تستطيع ان تنظر اليها، يستعرضونها أمامك رغما عنك.
قرون طويلة من التسول والسعاية، لا يملك معها الناس سوى ترديد عبارة الله يستر أو الله يعفو. لم يستطع أحد يوما أن يصدر قانونا يمنع التسول، ويحفظ كرامة الناس. لقد تعود الناس على محو ذنوبهم، وقلب كفة الموازين بين الحسنات والسيئات بقليل من النقود. ومنه من يعتقد بأنه سيعبر إلى الجنة، من غير صداع.
المعجم:
ـ تقطع به الحبل: لا يملك نقودا تسهل عودته إلى بلدته.
مراكش في 22 أكتوبر 2018

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى