الجامعة في زمن الشك.. من يحمي العقل من الاغتيال الرمزي؟
الميزان/ الرباط: د. عبداللطيف كداي*

almizan.ma
الجامعة في زمن الشك.. من يحمي العقل من الاغتيال الرمزي؟
الميزان/ الرباط: د. عبداللطيف كداي*
في زمن تتآكل فيه المعايير تحت وطأة التسرع، والسطحية، والخلط، يصبح الدفاع عن العقل شجاعة مضاعفة، ويصبح الصمت تقصيرا.
وفي لحظات التشويش الرمزي، التي يُستهدف فيها العقل أكثر مما يُناقش، تصبح الكتابة — بالنسبة لمن يحمل مسؤولية تربوية ومعرفية — أكثر من رأي، وأكثر من حق: تصبح واجبا أخلاقيا، وموقفا رمزيا، وصوتا لا بد أن يقال، دفاعا عن كل من يحمل شهادة جامعية كد واجتهد من أجل نيلها.
أنا لا أكتب من موقع الحياد البارد، ولا من خارج أسوار الجامعة، بل من قلب معاناتها اليومية.
أكتب وأنا أحمل، مع كثير من الزملاء، همّ مؤسسة نشتغل من أجلها، ونتعب في صمت لأجلها، ونضحي بوقتنا، وهدوئنا، وصحتنا من أجل أن تبقى وفية لما تمثله: فضاء للعلم، ومساحة للكرامة، ومنارة لعقل الوطن.
لسنا من أولئك الذين يحنون رؤوسهم حين تشتد العاصفة، لأننا ببساطة نعرف أن الجامعة المغربية، رغم بعض أعطابها، هي آخر ما تبقى من أمل جماعي لأبناء هذا الوطن.
لذلك، حين يُستهدف هذا الصرح، لا يكفي أن نحزن، بل يجب أن ننهض، ونشهد، ونكتب. لا دفاعا عن أحد، بل دفاعا عن الفكرة. عن ذلك المشروع المعنوي الكبير الذي يُدعى: الجامعة المغربية.
في قلب هذه العاصفة الرمزية التي تحيط بالجامعة المغربية اليوم، لم نعد أمام مجرد فضيحة فردية، بل أمام استهداف ممنهج لمؤسسة حيوية، يجري تحويلها، بمنطق التعميم القاتل، من فضاء للفكر والمعرفة إلى رمز للتسيّب والانحلال.
حادثة بيع الشهادات، أو تسريب النقاط، أو اختلال معايير الانتقاء، مهما بلغت من الخطورة، تبقى وقائع جزئية يجب أن تخضع لمسارات التحقيق والقضاء. لكن ما يجري هو أبعد من المحاسبة القضائية، وأخطر من فضح فردي.
إننا نعيش ما يشبه الاغتيال الرمزي لعقل جماعي: حيث تتحول الجامعة إلى موضع ريبة، والشهادة إلى ورقة بلا معنى، والأستاذ إلى متهم بالصمت أو التواطؤ. وكما قالت حنة آرندت: “الخطر لا يكمن في الكذب، بل في تحطيم الثقة في الحقيقة”.
في هذا السياق المحموم، بات الإعلام الرقمي بأجزائه الهامشية، وجزء من السياسيين في إطار من المزايدة على الحكومة ، يمارس نوعا من الشعبوية “المعرفية”.
كل صورة تُعمم، كل عنوان يُضخم، كل حادث يُقدم كمرآة لكلية أو جامعة بأكملها.
وما النتيجة التي نتوخاها إذن؟
طلاب يشكون في قيمة شهاداتهم.
أسر تتساءل عن جدوى الاستثمار في تعليم أبنائها.
وأطر أكاديمية يختنق صوتها في زمن التهكم الممنهج.
دريدا يقول ذات تأمل واعي “من يزرع الشك في المعنى، يحصد العبث في المستقبل.”
ويبقى السؤال الأعمق، والذي لا يُطرح بما يكفي، هو:
من يحمي الجامعة من هذا التآكل الرمزي؟
من يصون لنا ما تبقى من الإيمان الجماعي بقيمة العقل، حين يتحوّل الشك من أداة فكرية إلى عقيدة تشويه؟
ومن يجرؤ، اليوم، على الدفاع عن مؤسسة يُراد لها أن تسقط، لا لأنها فاسدة، بل لأنها – رغم أعطابها – ما تزال تملك القدرة على إنتاج المعنى؟
صحيح أن الجامعة ليست مدينة فاضلة، ليس في بلدنا وحده بل الفساد طال جامعات مرموقة في العالم من هارفارد إلى كوريا الجنوبية، من ألمانيا إلى بريطانيا إلى فرنسا والقائمة طويلة جدا، تمت إدانة أساتذة كبار تورطوا في التزوير والانتحال وبيع الشهادات. الفساد آفة إنسانية، ولا قطاع بمنأى عنها، لكن الفرق يكمن في طريقة المعالجة: في تلك البلدان، لا تُحوّل القضية إلى نحر جماعي لسمعة المؤسسة، بل تُعالج ضمن منطق المؤسسات: قضاء، مساءلة، وإصلاح هيكلي.
هل نتابع اليوم ما يقوم به الوزير من إصلاح حقيقي بتعديل شامل للقانون 01.00 المنظم للتعليم العالي والذي عمر قرابة ربع قرن، من أجل وضع الجامعة عمومية كانت أو خاصة في مسارها الصحيح…
الجامعة وفي كل دول العالم، كانت دائما خط الدفاع الأخير عن الاستقلال المعرفي، عن النقد البناء، عن مقاومة الانزلاق إلى الشعبوية والسطحية.
وإذا كنا نغضب — بحق — من مظاهر الفساد، فعلينا أن نغضب أكثر من تواطئنا الجماعي على اختزال الجامعة في صور كاريكاتورية مهينة، تُسوّق في وسائل التواصل كما تُسوّق السلع.
علينا أن نعي تماما ما ذكره باومان وهو يتحدث عن الحداثة السائلة: “في عصر ما بعد الحقيقة، لا تموت الأفكار بسوء تطبيقها، بل بسوء فهمها.”
الدفاع عن الجامعة اليوم لا يعني تبرئة كل من فيها، بل يعني الدفاع عن الفكرة ذاتها:
أن التعليم فعل تحرري، لا مجرد وظيفة.
أن الشهادة تتويج لمسار، لا سلعة.
وأن الأستاذ الجامعي، رغم كل الضغوط، يظل حارسا لقيم التفكير، لا حارسا لباب الريع.
أن ندافع عن الجامعة، لا بالخطابات العاطفية، ولكن بإعادة الاعتبار إلى صورة الأستاذ الشريف، والطالب النبيل، والشهادة التي تعب من أجلها ملايين الشباب ومعهم آباؤهم وأمهاتهم…
نحن لا نطلب غض الطرف عن الفساد، بل نطلب العدالة في الرؤية، والتمييز بين الانحراف الفردي والمصير الجماعي.
ونطلب، قبل ذلك، استعادة الوعي بأن الجامعة — كما قال إدوارد سعيد — “هي آخر الأماكن التي لا تزال فيها الحرية فكرة قابلة للتداول.” ومن لا يحمي مؤسساته من الداخل، سيبكي عليها حين تسقط من الخارج.
إن من واجبنا، كمثقفين، ومواطنين، ومؤمنين بقيمة العقل، أن نردّ الأمور إلى نصابها:
أن نُدين الفساد، نعم، لكن يجب أن نُدين أيضًا تعميم الشك، واغتيال الرمز الذي تشير إليه الجامعة، وتحويلها إلى كبش فداء لخيبات أخرى لا علاقة لها بها.
لا أحد، له الحق، أن يصادر شرف آلاف الرجال والنساء الذين بنوا الجامعة المغربية لبنة لبنة، وسط إكراهات هائلة، مسؤولون في مختلف المواقع، أساتذة وطلبة وموظفون.
لأن السؤال الحقيقي لم يعد من فسد بل: من يسعى لحماية الجامعة وغيرها من المؤسسات من كل أشكال الفساد المتربصة؟
*عميد كلية علوم التربية