
almizan.ma
الحكمة الثالثة
( سَوابِقُ الهِمَمِ لا تَخْرِقُ أَسْوارَ الأَقْدَارِ ).
تعريفات:
الهمم: جمع همة: النشاط والنية في العمل والحركة.
سوابق الهمم: معالي الهمم النافذة.
القدر: ما كان مسطورا في اللوح المحفوظ، أي كان قضاء، ثم صار حقيقة وواقعا.
أقسام القدر
ديني شرعي:
هو ما أراد الله وقوعه، وأحب حصوله شرعاً، كسائر الأوامر في الشريعة.
قدر كوني:
ما أراد الله وقوعه، حتى مع بغض الله له، كسائر الكفر والفسوق والفجور والمظالم الواقعة من الناس.
وكل ما قدره الله عز وجل من أحوال العباد وعواقبهم (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) فقد قدره بأسباب (وجعلنا لكل شيء سببا).
فالله يعلم أن هذا يولد له بالوطء.. وهذا يشبع بالأكل.. وهذا يموت بالقتل (فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا).
والأحكام في ذلك بالنسبة للمكلفين ثلاثة:
الحكم الأول:
حكم شرعي ديني حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة بل بالانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة إقرارا وتصديقا ثم إرادة وتنفيذا وعملا. فتطمئن النفس إلى الله معرفة به ومحبة له وعلما بأمره وإرادة لمرضاته وهذا حقيقة من أتى الله بقلب سليم.
الحكم الثاني
الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه فهذا حقه أن ينازع ويدافع بالحكم الكوني أيضا فينازع حكم الحق بالحق للحق فيدافع به كما قال عمر بن الخطاب (نفر من قدر الله إلى قدره). فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس فقد دفع قدر الله بقدره. وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض. ويبذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة بكل ما يحبه الله ويرضاه.
الحكم الثالث:
الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه، ولا حيلة له في منازعته، فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وعليه أن يشهد فيه عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ويشهد أن ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته.
فهذه الحكمة الثالثة تعليل للثانية وتمهيد لما بعدها، فهي تنبيه للسالك حتى لا يغفل عن الله بركونه إلى الأسباب، واعتماده على أعماله والطمأنينة بها، بل تصير كل أعماله مع سبق همته عند تحقق الافتقار إلى الله سبحانه، والاستغناء به كأنها عدم بالنظر إلى سبق مسببها بالأولية، وتفرده بالأزلية عاجزة عن اختراق سياج الأقدار وأسواره.