السياسيةقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

الابتسامة السرية (حكي من المجهول)

الميزان/ مراكش: ذ.عبد العزيز معيفي

almizan.ma

الابتسامة السرية (حكي من المجهول)
الميزان/ مراكش: ذ.عبد العزيز معيفي
خيوط الضوء تطل باحتشام جاهدة في اختراق العتمة، معلنة عن صباح كئيب.. غيوم ثقيلة تنبئ بفصل شتاء قاس.. تتحول مراكش إلى ثلاجة ضخمة ، تتلاقى فيها التيارات الجافة والباردة، التي تتسلل من جبال الأطلس الكبير، وتجثم على انفاس المدينة الحمراء..
شعرت بنوع من الضيق وأنا استجمع اطرافي، وأزيح عنها ما كبلها من ارتخاء، ساعيا للتخلص من ثقل يكبل كامل الجسم، ويتركز في الجفون.. ضيق أشبه بحزن كامن، حزن يحتل مساحة الإحساس. ينتشر ببطيء، غير أنه لا يحيد عما احتله، وكأنه بداية لأوجاع ستعمر لأجيال…
تذكرت جارنا عندما كان يهم ـ عند الفجر ـ بمغادرة البيت وهو يئن.. كل حركة كانت فصلا من فصول التعذيب.. الذهاب إلى العمل أشبه بمعبر جهنمي عليه أن يجتازه.. العذاب الذي ينتظره في عمله – كمساعد سائق حافلة من النوع القديم – يعبر عنه وجع مكبوت، يسكن الأحشاء، ويتحول إلى انين دفين لا يفارق الأضلع ..
أنهيت جمع الأغراض، وأنا أستعد للالتحاق بالعمل، وتفحصت المحفظة حتى لا أسهو على مرجع أو أوراق سأحتاجها أثناء العمل كمدرس بثانوية يفصل بينها وبين مراکش ساعة مسير بالحافلة.. أسرعت الخطو للالتحاق بالمحطة الطرقية كي لا أفوت موعد انطلاق الحافلة. الزقاق خال إلا من بعض القطط والكلاب الضالة، وبعض المشردين وهم يكملون نومهم مفترشين قطع كرتون، وملتحفين أغطية مهترئة لتدفئة الجسم، واتقاء برد يتغول وتزداد مدته أثناء شتاء مراكش الرابضة عند سفح جبال الأطلس الكبير..
بعض المسافرين يحملون أمتعتهم، ويدُبّون في اتجاه المحطة الطرقية التي تحولت إلى محج يستقطب عشرات المسافرين في هذا الصباح الكتيب..
خلف المحطة “فتح” مقهى “عشوائي” أبوابه معلنا عن حركة ستدب في الساعات الأولى من الصباح، لإشباع بطون فارغة متلهفة للقمة بعد ليل طويل من الشتاء الكئيب.. ليل يجعل البطون تعوي كما تعوي الذئاب الجائعة..
لا خيار أمامي إلا أن أحشر نفسي بين الراغبين.. في إسكات البطن.. ولا شيء خير من جبانية من “البيصارة” الساخنة، وكأس شاي..
اتخذت لي مكانا قبالة “طبلة” تقليدية، حافظ عليها القهوجي رغم اهترائها، ومقارعتها للزمان، ولأصناف الأوساخ المتراكمة..
دون أن يلتفت إلي، وضع القهوجي أمامي خبزة، وكأنه يضمن زبونا، ثم ملاً الجبانية بمغرفة خشبية كبيرة، والتقط ابريقا كبيرا لم يبق منه إلا الاسم لفرط انبعاجه، وأفرغ الشاي، وهو يباعد ما بين اليد التي تحمل الإبريق واليد التي تمسك الكأس، حتى يطول تدفق الشاي وتعلوه “الرزة” البيضاء..
ثمن الوجبة قبلة للصناع والباعة والمتسولين، وكل من لا يأوي جيبه إلا القليل..
السحنات في هذه الفترة تشبه النهار المشؤوم، فلازالت بعض العربات مغطاة بأردية متسخة تتكدس حولها بعض الصناديق المتلاشية، وكأنها محلات لم تفتح أبوابها بعد!!
كذلك تكون الملامح رمادية ، مبعثرة ، منقبضة، لا تترك أي فرصة لتفتح أزهار الانشراح..
الكلام يكون خافتا، ثقيلا، وكأنه يصدر على مضض لأن الأمزجة لا تحتمل اقتراب شخص من آخر. فأغلب “المستيقظين” الذين يرتادون هذه الأمكنة، يحتاجون إما لجرعة من دخان السجائر، أو الحشيش، أو هما معا، وإما لازال تأثير خدر الشراب الرديء، وكان قد قضى الليل يسكبه في جوفه..
البعض يسير وكأنه يُساق إلى سجن كبير، وحُكم عليه بتمضية ما تبقى من فصول الحياة في عذاب السعاية والكد من أجل ما يجعله واقفا، ليعيد في اليوم الموالي سعايته وكده.. هي حياة لا يتلذذ بها من طوّحت به، فلم يتأنق صباحا، ويلقي التحية، ويبتهج وهو يستمع لأغنية: الله على راحة الله؟؟
أقبلت امرأة، لم يبق لها من هذه الصفة إلا الاسم!.. قدماها أشبه بحوافر الدواب، لأنهما اكتسبتا خشونة السير في الطرقات تلقائيا من دون حذاء.. الوجه مُغطى بالندوب إلى أن فقد طبيعته الأنثوية، وتحول إلى ما يشبه سحنة مشوهة، سنان فقط لا زالتا متشبثتين بالفك الأسفل.. كما تدلت الشفتان وتباعدتا لتكشفا عن جحر.. بعض الشعر، أشبه بالقش، مُلبّد بالأوساخ.. المفارقة هي أن القوام لازال محافظا على بعض استوائه كقوام أنثوي… فهي مدبرة تشعر ببعض الانتساب للأنوثة أما حين تقبل، فالصورة تنقلب، وتوحي بحقيقة ما تعانيه من تشردها، ومن افتراس المشردين لها.. لعلها تجسد حالة البلد..
عقارب الساعة تدور، والنهار يعقبه الليل، وكأننا ننتمي للوجود، غير أننا لا ننفك نغرق في العدم!!
انطلقت الحافلة، بعد تتابع النفير لتنبيه المتأخرين، وبدا السائق وهو يُسخّر مهاراته كربّان طائرة، أو قائد سفينة.. حيث كانت سياقة الحافلة تحوز آنذاك نوعا من الهيبة!!.. اتخذت مكاني على المحرك بالقرب منه، وبعد أن سألني – كعادته – عن الأحوال، وعن ألفتي للعمل، فاجأني بالتعبير عن انشغاله بما يجري من احتقان واحتجاجات اجتماعية، وخاصة بمراكش وشمال البلد..
اجبته:
ليس في الأمر ما يدعو للقلق.. مظاهرات شعبية تدل على السخط من تدني الأحوال الاجتماعية..
قال:
ـ وهل ستعقبها اعتقالات … انبهك أن تحترس خاصة مع ما حصل لك في الماضي!..
قلت:
ـ أشكرك .. ولكن “لا خوف عليهم”.. فنحن في سفينة أفضل ألا تسوء قيادتها، وإلا غرق الجميع!..
علق:
ـ الخوف وكل الخوف مما قد ينتظرك!..
ودعته، عند الوصول لمقصدي، واتجهت إلى المقهى في انتظار حلول وقت العمل..
ازداد ثقل الهواجس، وتساءلت: ألم يكن الفيلسوف الرواقي “سينيكا” محقا حين قطع بأن الإحساس بالألم من الحياة يعود إلى المبالغة في التفاؤل تجاه الأشياء والحياة؟
موجات الحياة قد تتعاظم، وتتضخم أو تجرف كل ما تصادفه أمامها.. هكذا تسير الأمور عندنا لا يحكم إلا منطق الاستقواء على البسطاء. فكيف يمكن أن تستمر في اجترار وهم الحياة إذا لم تقبل بتقليص ذكائك، وأن تتأقلم مع سلسلة العبودية الضخمة التي تُكبل الأقدام من الولادة إلى الممات؟!..
ولكن لم وجع الرأس، ولم يطلع النهار بعد؟ هذه التأملات السوداوية تبدو بعيدة، ولا حاجة للخوض فيها.. ولكن قد يفاجئك مالم تتوقعه!.. كنت كمن ينسج “زربية” للمستقبل، زربية لا حدود لها، “سداها” و”طعمتها” من الحياة .. زربية ينعم الجميع بدفئها.. ولكني لم أكن أدرك عمق البئر التي يحفرها “اصحاب الوقت” تحت قدمي.. ولربما يمكن أن تطمرني للأبد!!..
عند بوابة الثانوية حيّاني أحد الإداريين:
ـ صباح الخير أستاذ أراك مستعدا للبرد، فأنت تلبس الجلباب على غير عادتك!!
اكتفيت بابتسامة، وابتعدت في اتجاه القاعات.. لم يكن يعلم أني اكتسبت خبرة من الاعتقالات التي عانيت منها في الماضي.. ففي مثل هذه الظروف، ما عليك الا أن تلبس قطعا إضافية من اللباس، للاحتماء من البرد، وافتراشها عند الضرورة، لأنك ربما ستُرغم على افتراش الارض …
هكذا يأتي الدرس الأول من الاعتقال، والباقي يأتي حسب الظروف!!..
بعد وقت قصير، هرول الحارس نحوي:
ـ أشخاص غرباء يسألون عنك؟
فهمت القصد.. ناولته المحفظة، واتجهت إليهم، وكأني قربان يقدمه القوم لكائن خرافي قاهر.. توقف التفكير، ودخلت فيما يشبه تعطل الحواس..
قبول الدخول في المجهول ليس هينا.. ويتطلب أن تألف ذلك التحول المروع الذي يستبد بالأحشاء، ويحولك إلى مجرد كائن من صنف آخر.. كائن خاضع لانتهاك حرمته، ونزع إنسانيته..
عند البوابة، احتشد عدة أشخاص، رائحة الرغبة في الانقضاض تفوح منهم. بعضهم
بالغ في رسم علامات التسلط على جبينه.. ليخيف اكثر، خاطبني أحدهم بلهجة حادة:
ـ أنت (…)؟
أجبته:
ـ نعم..
ستأتي معنا – قال – وارتمى علي فجأة ثلاثة منهم:
أوقفهم بحركة من يده، وأضاف:
– لا حاجة لذلك، فأنت استاذ وفاهم!
كيف لي أنا أن أتصور، كيف يتحول الفهم لدى الأستاذ إلى قبول أن يُختطف، ويُقتاد الى المجهول دون أي حركة للمقاومة؟ أليست هذه قمة التهجين: يطلبون منك بحكم كونك “اُستاذا” و”واعيا” أن تتحول إلى ” نمور” زکریا ثامر، حين قبلت تناول العشب بعد تطويعها!!
بعد اقتيادي الى سيارتهم، وتصفيد معصمي وراء ظهري، وتطويقي يمنة ويسرة، أخذت السيارة طريق مراكش، وفي إثرها سيارتهم الثانية. توقفوا عند مغادرة المنطقة الآهلة، وعصبوا عيني، وقال كبيرهم:
ـ يا ابن (…) ارغمتنا على السفر للعثور عليك.. أنت كالجذام.. ولكن سنرى قريبا!!
لتنفيذ التهديد، ضغط أحدهم على رقبتي، لأحني راسي، وانهال علي الآخر باللكمات!.
لمَ كل هذا العنف؟ الأمر ليس إلا بداية – كما قال كبيرهم ـ !.. الرغبة الغريزية في إلحاق الأذى بالآخر، تنبع أصلا من مثير بسيط، لتكون الاستجابة بسيطة، حسب علم النفس السلوكي.. هذا “عدونا” نقضي عليه وكفي!!.. هكذا يتصور الشخص الأداة دوره في حماية المواطن!! ولن يرضى عليه الرئيس إلا إذا برهن على شراسته في قهر وسحق وتمزيق كل من يحلم بغد الحرية والكرامة.. بعد لفّ ودوران للتشويش على المسار الذي قطعناه توقفوا.. وأرغمت على الهبوط منحنيا لأن الذي كان يضغط على رقبتي لازال مستمرا في مهمته.. قاموا بجرّي إلى قبو، سأتعرف على موقعه في فيلا هجروها فيما بعد.. أجلسوني في ركن على الأرض، وقال كبيرهم:
سنأتي فيما بعد، لنرى ما لديك!!..
هل لي أن أمسك الشمس بيميني، وأضيء بها ظلمة، وبؤس العالم !!.. ستتقاذفني أمواج العذاب، وأعتذر لأحلامي، لأن الكف لن تطال قرص الشمس، وسيأتي ما سيأتي.
حاولت تحريك يدي لتخفيف الألم عن كتفي ومعصمي، حركة شبيهة بمن يسعى لصب الماء على الرمل.
فما أن أتّكىء قليلا حتى يعوي المعصم، وينبض نبضا طويلا يسحب معه موجة حادة من الألم.. تذكرت أثناء الطفولة جولات آلام الاضراس التي كانت تنتهي دائما بالقلع.. أما الآن فماذا سأقتلع الكتف، أم المعصم؟..
جاءوا دفعة واحدة، متصنعين السرعة.. فهم لا يملكون وقتا لإضاعته معي.. هكذا قال كبيرهم:
ـ والآن من هو “أ”
سقط السؤال كالصخرة، وكاد يقتلع القلب. تسارعت النبضات.. غير أني غالبت الانهيار، وأجبت بصوت منطقى:
ـ لا أعرف “أ”.
ـ سنرى إن كنت تعرفه أم لا؟
حملتني الأيدي من مكاني، وأضجعوني على بطني، وأدخلوا عصا غليظة بين يدي، امتدت إلى قدمي. ثم رفعوا العصا، ووضعوا كل طرف على حاجز خشبة، فأصبحت معلقا في وضع الطيارة..
كم سيستمر العمود الفقري في تحمل الالتواء المتزايد بفعل ضغط ثقل الجسم عليه ؟؟
من الأفضال أني كنت خفيف الوزن، نتيجة هزال مزمن لازمني.. ومع ذلك انفجر الألم، وبدأ بخدر يكتسحني بدءا من الأطراف.. اليدان.. والقدمان.. ثم باقي أنحاء الجسم..
انهالت الركلات واللكمات كالسيل الهادر يجتاح كل ما يصادفه من جسدي الواهن..
أتلوّى، أتكور، أحاول تكثيف ما تبقى من لحم وعظم لتحمل قوة الضرب.. يتسارع شريط الصور في ذهني.. ينمحي كل شيء، ويحلّ السواد، ليعبر بي إلى عالم الماوراء..
الزمان في هذا الوضع النادر الحدوث، ليست له قيمة. الثواني كالدهور.. وحده الألم يوقع لحن المصير.. توقف الهجوم دفعة واحدة.. ربما أمر كبيرهم بخطة جديدة.. ثم قال:
ـ اتركوه معلقا!!
من الصعب أن تشهد موت جسدك، بسبب انحباس الدم في الأوعية، وانحساره في الرأس.. ومع ذلك تستمر لهفة التشبث بهذا الجسد الذي يغادرك..
بدأت أصرخ:
ـ أعباد الله.. هذا ظلم!!..
كان أحدهم يحرسني، بعد أن انسحب الجميع. تناول عصا، وبدأ يهوي عشوائيا على جسدي كمن ينفض الغبار عن رداء ثقيل معلق.. حافظ على الصمت المطلق، وكأنه كان يخشى أن يعلق صوته بذاكرتي، واتعرف عليه “بعد تداول الأيام”. لم يكن يدرك أنه كان يقدم لي خدمة، لأنه يُحفز الأماكن التي كان يضربها. ولذلك أطلت في الصراخ، وأطال في الضرب إلى أن أنهكه “العمل الشاق” الذي كان يقوم به!!..
سمعت خطواته، وهو يبتعد عني، غيرانه جرّ ما يشبه الرداء، ثم سمعت: الله أكبر، وبداً يصلي!!
كان كل أملي أن يُنهي بسرعة صلاته، وينهال علي من جديد بالضرب، ليعيد إلى جسدي دبيب الحياة لكنه أطال في قراءته بصوت يشبه فحيح الأفاعي، وتلذذ بركعاته وسجداته، وكانه يمسح عنه كل ذنوب العالم..
ازعجته بصراخي، لكنه لم يستجب، ولم يقترب مني.. یا الله أي حق هذا يمنحه شخص لنفسه أن يعذب إنسانا آخرا، وهو مطمئن ويتوجه اليك لطلب المغفرة والعون!؟..
أتم صلاته بتؤدة، وابتعد قليلا. أصختُ السمع، فتناهى إلي صوت الماء يملأ غلّايا، ثم انقطع، وبدأ صوت الموقد.. آه ! إنه يهيئ الشاي! وكم يلزمه من الوقت؟ وهل أنا قادر على تحمل العذاب طيلة المدة التي سيتلذذ بإطالتها لتهيئة كأس شاي كما ينبغي!!..
انتظرت ولحمي يكاد يتمزق، فاجتاحتني رائحة الشاي !!.. لكم كرهت رائحة الشاي، لأنها تذكرني بلحظات احتضاري.. وهذا الصوت الذي يحدثه الشاي وهو ينطلق من البراد ويستقر في الكأس.. هذا الخرير أصبح عندي معادلا للحشرجة !!… ثم يأتي الصوت الذي تحدثه الرشفة كسكين ينغرز في أحشائي، وينتزع من جسدي ما تبقى فيه من نبض الحياة.. تحول الشاي عندي من مشروب التآلف والمحبة، إلى ذكرى تعيدني إلى أعماق الجحيم..
صوت الجلبة حمل معه تباشير الانعتاق من فصول العذاب، وبدون مقدمات قال وكبيرهم:
– أنت تتذاكى، وتعتقد أننا أغبياء.. أنت تستحق الإعدام.. هيا انزلوه، وسنذهب به إلى حيث ينتهي، وتنتهي معه الألاعيب!!…
وبسرعة أنزلوني من فوق الحواجز الخشبية، كل واحد أمسك بدراع واتجهوا بي نحو المجهول..
مرة أخرى أحسست وكأن الدم يكاد ينفجر في رأسي، وجاءت الغيبوبة لتنقدني، ولو لبرهة من سعير النار المولعة في مختلف أطراف جسدي..
افقت بعد قليل، وأنا في السيارة محاصر بالأكف والأذرع والأرجل، لكي لا أظهر من خلال نوافذ السيارة، ويراني المارة..
سأل صوت الآمر:
ـ هل خرجنا من مراكش؟
اجابه واحد يمسك بي:
ـ غادرناها.. ونحن نتجه حيث سيغبر له الأثر!!..
أي أثر سينمحي؟ وهل أسير حين أترك أثرا؟
من سيخلفني.. وهل ستندلع الحرائق، إذا تم قتلي، ورمي جثتي للكلاب؟..
لا أعتقد أني سأفلت من قبضة الكائن الخرافي الذي يتقوى حين يمتص دم الحرية. هل أنا ضحية؟.. هل أقبل أن ينهش الجلاد لحمي؟ يُكسر العظام، ويدقها ويسفها.. وانتهي حيثما بدأتُ ضحية؟..
لا خيار لي إلا أن أنصهر في مصيري، وأتلمس آثار من سبقني..
توقفت السيارة، وتنحى عني “الأقوياء”، وأمرني قائدهم أن أنزل.. جرني إلى مبنى، وسمعت جلبة، وآثار حركة.. ولكني لم أميز المكان. أدخلني غرفة، وأمرني أن أجلس على الأرض، وقدم تعليماته لأحد الحراس:
– إذا قام من مكانه، أو تكلم، أو تحرك، كسر رأسه!!
ثم ساد الصمت.. لا حركة، ولا همس، ولا أي شيء يصلني بالحياة.. أنا الآن ممزق، بين بداية الاقتناع بنهاية حياتي، وبين التمسك بخيط عنكبوت ربما يجعلني أواصل رحلة العذاب …
لم أعد أقدر الوقت، كم قضيت من يوم وأنا مكبل، معصوب العينين، ملقى على الأرض؟
لا علم لي بعدد الجراح أو الكدمات التي أصيب بها جسمي.. أما روحي، فهي تكاد تحترق، وتذرو الرياح رمادها!! وهذه “البائضا” على عيني تؤلمني بشدة، لأن من وضعها، قام بلفّها جيدا قبل عقدها. وبما أنها ملتوية، كانت شعيرات الثوب الصوفي الغليظ تدخل عيني كلما حاولت فتحهما..
ربما مرت ساعات، عندها سمعت خطوات تبتعد، وباب يُفتح ثم يُغلق.. لعل الحارس غادر.. هل أحاول أن اكتشف أين أنا؟ وما هذا المكان؟
ولكن إذا كان الحارس بالمرصاد؟.. وهل هناك أسوأ مما أنا فيه؟!. سيضربني، وربما يكسر أسناني!! سأتكور وأضع رأسي بين رجلي ، وله أن يرفس ويركل، ويضرب ما شاء..
بعد جهد خرافي، دفعت بيد نحو الأخرى ، حتى أتمكن من إزاحة “البانضا” عن عين واحدة، وأتفقد المكان، وأرى ما يمكن فعله فيما بعد ..
توصلت إلى رفع يدي اليمني، وهي دائما مربوطة إلى اليسرى خلف ظهری، ووضعت أصبعا على طرف “البانضا”، وأزلت جزءا منها عن عيني.. وماذا اكتشفت؟ لا يوجد أي حارس في الغرفة!!.. وفي الجهة المقابلة، يقبع عدة أشخاص ليسوا مقيدين، ولا معصوبي العيون !
هل أحلم ؟ أين أنا؟ على الأقل أنا محشور بين أشخاص مثلي، ولست معزولا..
غريزة البقاء، بدأت تستفيق في، وتدفعني لمغادرة منطقة اليأس، والزحف نحو منطقة الحرب!! ألم يكن “كافكا” محقاً حين صرخ:
“الحياة حرب، حرب مع نفسك، حرب مع ظروفك، وحرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف “…
علي أن أطيل فصول الحرب، وأعيد ضبط حواسي على مقام الحياة.. هى حياة قبل كل شيء.. ليس فيها ما يعيب.. انا مكبل، معصوب العينين، جسدي ليس فيه جزء واحد لم يصب بأذى ..
وفوق ذلك ينتظرني المجهول .. ومع ذلك أسمى ما تبقى من وجودي حياة؟!!
هي دوافع لا يمكن التحكم فيها.. استدعي ما تعطل بداخلي من قوى دون أن أشعر، وأشحذها، لتُرقّي وجودي، وتجعلني أتمسك ببصيص من الاستمرار. قررت أن أزيل “البانضا” نهائيا عن عيني!!..
ـ هيه.. لا تتسرع سيأتي من يحول عظامك الي رميم ..
ـ ليكن، فأنا أقارن مع الاشخاص القابعين أمامي.. عيونهم ليست معصوبة، وليسوا مقيدين!!..
اجتهدت أكثر في حركاتي، إلى أن تمكنت من “البانضا” وانتزعتها، وفي لمح البصر طويتها بيد واحدة، وأدخلتها جيبي، وكأني أمحوها من الوجود!! ..
لكم هي مقيتة هذه “البانضا” حين تحجب البصر، تفقد القدرة على تمييز اشياء كثيرة.. تصبح مرغما على التخلي عن حاسة البصر، والاكتفاء بترويض حاسة السمع، واللمس للتعرف على ما يحيط بك. ولكنها معرفة مبتدئة، ناقصة مشوشة، مبتورة، لأنك لا تملك قدرات “المبصر” على التأقلم..
لعلهم يريدون تحويلي إلى كائن من كائنات الانفاق، كائنات فقدت حاسة البصر، لأنها تعيش في الظلام..
هذه الكائنات لم تعد بحاجة للنور، ولذلك عوضت حاسة البصر بقدرات إدراكية أخرى..
هكذا كنت أعيش وضعية شبه العمي التي فرضت علي …
ولكن إذا كانوا قد سعوا إلى تعطيل حاسة البصر لدي، فلن يتمكنوا من منعي من استرجاعها، لأنهم حقيقة لا يملكون شيفرة الحياة.. ولا يملكون القدرة على التصرف في الأقفال التي تسيج الأمل. يكفي أن أعثر على مفتاح واحد، وافتح به كوة يمر منها نسغ الحرية.
وكقطعة الخشب التي تتقاذفها مياه البحر، وجدت نفسي كالسيد “ك” في رواية “المحاكمة ” لفرانز كافكا” علق في قضية، وبدأت محاكمته دون أن يدري كيف ولماذا؟
ولكن على الأقل بدأت أدرك سبب اختطافي، فربما “أ” الذي سألوني عنه كان له وقع الحمض الذي يتسرب إلى المعدن ويفتته.. هكذا كنا ؟! وهكذا صرنا؟!
لا استطيع أن أفكر بهدوء.. فالصور والهواجس والأحاسيس تراكمت، وانطلقت دفعة واحدة فيما يشبه دفق الماء، بعد حبسه طويلا. بدأت عيناي تسترجعان القدرة على النظر البعيد… آه لعله “م”، وهو يبتسم لي.. ما اروع هذه الابتسامة وهي تصدر عن “م” الودود الطيب.. الشجرة الظليلة..
ـ أنت أيضا هنا ! وكم لملمت ابتسامتك جروحي وعظامي !! ما كنت لأتمنى اغتصاب حريتك، لكن سحر ابتسامتك جعلني اعيش نصف حرية، وأشحذ أظافري لأتمسك بما نتئ من جدار الهاوية ، وأتحول إلى قط بسبعة أرواح..

عزیز معيفي
مراكش 30 مارس 2023

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى