إصلاح ذات البين بين التنظير الشرعي و الواقع المعاش
الدكتور عبد الجليل جودات

almizan.ma
لا خلاف أن الشقاق والخلاف من أخطر أسلحة الشيطان الفتاكة التي يوغر بها صدور الخلق ، لينفصلوا بعد اتحاد ، ويتنافروا بعد اتفاق ، ويتعادوا بعد أُخوَّة ، وقد اهتمَّ الإسلام بمسألة احتمال وقوع الخلاف بين المؤمنين وأخذها بعين الاعتبار، وذلك لأن المؤمنين بَشَر يخطئون ويصيبون ، ويعسر أن تتَّفق آراؤهم أو تتوحَّد اتجاهاتهم دائما، ولهذا عالج الإسلام مسألة الخلاف على اختلاف مستوياتها بدءً من مرحلة المشاحنة والمجادلة ، ومرورا بالهجر والتباعد ، وانتهاءً بمرحلة الاعتداء والقتال ، والإسلام دين يتشوّف إلى الصلح ، ويسعى له وينادي إليه ، وليس ثمة خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة يصلح فيها العبد بين اثنين، ويقرب فيها بين قلبين ، فبالإصلاح يكون الهدوء والاستقرار، وبه يحصل الأمن والأمان ، وتتفجر ينابيع الألفة والمحبة و الاطمئنان.
إصلاح ذات البين في القرآن الكريم
ــ قال تعالى : ” فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم “( البقرة : 182 ).
ــ قال تعالى : ” ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ” ( البقرة : 224).
ــ قال تعالى : ” لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ” (النساء : 114 ) .
ــ قال تعالى : ” وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ” ( النساء : 128 ).
ــ قال تعالى : ” … فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وأن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما ” ( النساء : 129 ).
ــ قال تعالى : ” إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ” ( الحجرات : 10 ).
ومعنى ذات البين : صاحبة البين ، والبين في كلام العرب يأتي على وجهين متضادين :
الأول : الفراق والفرقة ومعناه : إصلاح صاحبة الفرقة بين المسلمين بإزالة أسباب الخصام والتسامح والعفو ، وبهذا الإصلاح يذهب البين وتنحل عقدة الفرقة .
الثاني : الوصل ومعناه : إصلاح صاحبة الوصل والتحابب والتآلف بين المسلمين، وإصلاحها يكون برأب ما تصدع منها وإزالة الفساد الذي دبّ إليها بسبب الخصام والتنازع على أمر من أمور الدنيا ” ( الأخلاق الإسلامية للميداني 2/230 ).
الآليات الشرعية لإصلاح ذات البين
وصف الله عز وجل عقد النكاح بالميثاق الغليظ ، ومقتضى كل ميثاق التزامُ الدوام والنصحِ والوفاء، وتركُ الكذبِ والظلم والخديعة ، لذا فالأصلُ في النكاح الدوام والسكينة والاستقرار، يقاوم فيه الزوجان كلَّ ما يتهدد ذلك.
ورغّب الشرع في الإبقاء على عُقدة النكاح، وأمر الزوج بالمعاشرة بالمعروف ولو مع كراهته لزوجه حيث قال : ” وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً “.
وجاء الترغيب في إمساك الزوجة بالمعروف حتى مع كراهتها في ألطف أسلوب وأحسنِه ، فهو يرغِّب في الإبقاء على هذه العقدة ولا يفرضها فرضاً، ” فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً “.
إن الله عز و جل يذكر بأمر قد يخفى في نزوة الغضب وجموح العاطفة : ” فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ” ، والآيةُ تأخذ الأبصارَ إلى ضرورة النظر في المآلات ، إلى الخير الكثير الذي ينضوي تحت العيبِ الحاضرِ المشاهَد، وتأخذ بالبصائرِ إلى استذكار الحسناتِ حين تقع العينُ على السيئات والعيوب ، حتى يكونَ النظرُ بإنصاف واتزان وموازنةٍ بين حسنات الزوجة وسيئاتها.
ومن هنا جاء قول الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة **** و لكن عين السخط تبدي المساوئ
في إشارة واضحة جلية إلى ضرورة عدم الجنوح إلى كفران العشير و التريث إلى حين تغليب القاعدة الربانية المستمدة من قوله تعالى : ” ولا تنسوا الفضل بينكم “.
التدرج كقاعدة أساسية في الإصلاح
إن النَزْوة العاطفيةَ العابرة تجمح أحياناً فتملي على صاحبها قرارَ الطلاق ، فتأتي الآية الكريمة : ” وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ” لتذكِّرَ الزوجَ بالعشرة السابقة التي بينه وبين زوجه، ولتطالبَه بحق زوجته عليه من العشرة بالمعروف والقيامِ بحقوقها قبل كل شيء، ثم إن رأى منها تقصيراً ووجد في قلبه كرهًا لها بعد المعروف والإحسان، فعليه ألا ييأس من أن يأتيَ الخيرُ من قِبَلِها وهو لها كاره مبغض، فقد تلد له أنجبَ ولدٍ وأبرّه، وقد يرى من حُسن خُلقها وتدبيرِها وتذمُّمِها ما يَرْجَحُ بكفة عيوبها ونقائصها.
إن الآية تدعو الزوج أن يستمسك بعقدة النكاح ، فلا تُفصم لأول خاطر، ولا تنفك لأول نزوة ، كي يحفظَ للأسرة قرارَها ، فلا يجعلها عرضةً لنزوة العاطفة المتقلبة، أوالحماقة الطائشة.
وما أعظم قول أمير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلق زوجه ” لأنه لا يحبها “، “ويحك! وهل كل البيوت بُنِيَتْ على الحب؟ فأين الرعايةُ وأين التذمم؟ “.
1 : الوعظ و النصح و التخويف بالله
قد يجد الزوج من زوجته بوادرَ نشوز وإعراض، أو نفورٍ وإهمالِ لحقوقه، فتأتيه الوصيةُ الشرعية بأن يأخذَ معها بأول خطوةٍ من خُطوات الإصلاح، وهي الوعظُ والنصح والتخويفُ بالله، و الأجدر أن يلجأ إلى معرفة أسباب هذا التغيير الطارئ خصوصا أننا أمام علاقة زوجية تفهم حيثيات اللقاء الذي قد يستشف من سلوك أو عبارة قد تفهم على غير معناها الحقيقي.
2 : الهجر في المضاجع
إن لم يُجْدِ السياق الأول أخذ معها بأسلوب آخرَ لطيفٍ لا يكون إلا بين الزوجين، وهو الهجر في المضاجع، وهو تدرج في التأديب والاستصلاح يميل في واقعه إلى التأديب النفسي قبل الجسدي، ونلحظ فيه مراعاةً لكرامة الإنسان، الذي لا يصلح له ما يصلح للحيوان من التأديب والترويض، فالوعظ يخاطب النفسَ والعقل، والهجرُ في المضاجع مقصود فيه الحرمانُ النفسي والعاطفي وكسرُ أنفةِ المرأة وكبريائها، بأن يَبُتَّ بينهما أخصَّ العلاقةِ الزوجية التي لا تكون لغيرهما، فيُوَلِّيها ظهرَه في المضجع ولا يكلمُها .
والهجر في المضجع حركة استعلاء نفسية من الرجل على كل ما تُدِلُّ به المرأة من اجتذاب، فالمضجع هو الموضعُ الذي تبلغ فيه الزوجة قمةَ سلطانها، فإذا رأت من زوجها هجراً لها في المضجع تيقنت أنه قد أُسقطَ من يدها أحدّ أسلحتها التي تعتز بها، وحينئذ تبدأ في التراجع والملاينة، أمام هذه الأنفة من زوجها، وأمامَ قوةِ إرادتِه في أحرجِ مواضعِها.
ويلاحظ في هذا الهجر تأديباً راقياً يُحَسُّ فيه صدقُ الرغبة في الإصلاح والتجردُ عن روح الانتقام والتشفي، فهو هجرٌ خاصٌ مستترٌ بستر الله، لا يعلم به إلا المؤدِّب والمؤدَّب، فليس هجراً أمام الأطفال، فيورثَ نفوسَهم شراً وفساداً، ولا هجراً أمام الأقارب والغرباء فيذلَ الزوجة أو يستثيرَ كرامتَها ، فتزدادَ نشوزًا.
كل هذا يتم في أزهى صورالتأديب التدريجي لحفظ مملكة الزواج المسيجة بسياج الميثاق الغليظ كما أرادها الشرع الحكيم ، خلافا لما يقع في مجتمعنا من هجر فراش الزوجية ، بل هجر البيوت في مجملها ، و قد يعمد الزوج إلى متاعه ليرحل عن البيت إلى وجهة غير معلومة في كثير من الأحاين ، ضاربا عرض الحائط القواعد الشرعية الملزم اتباعها في شرعنا الحكيم.
3 : الضرب كمرحلة أخيرة مرجوحة شرعا
فإن لم يُجْدِ هذا التأديبُ التدريجي الممنهج شرعيا، و الذي يأخذ حيزا زمنيا لابأس به تلين به الطباع و تهدأ به النفوس ، أخذ معها بأغلظَ من ذلك وليس بغليظ ، وهو أن يضربها ضرباً غيرَ مبرِّح ، لأنه ضربُ تأديب ، وليس بضرب تعزير ولا عقوبة حدٍ ، فالضرب لا يؤخذ على إطلاقه ، أو يفهم على غير فهم صحيح ، أو يحمل كسلاح يرفعه الحاقد أو الجاهل باسم التدريج الشرعي لإصلاح ذات البين.
روى عن عطاء أنه قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّح ؟ قال : السواك ونحوُه.
ويجب أن يفقه كل زوج ، و كل مهتم ، و كل من طرق باب الفتوى أن المقصودَ في هذا الضرب هو الإيلامُ النفسي وليس البدني ، و أن المقصود به التأديب وليس التعذيبَ والانتقامَ والتشفي، ولا الإذلال والتحقير.
كما يجب أن يفقه كل زوج أن الشرعَ الحكيم لا يتشوَّف للضرب وإن أمر به، فالأمر في قوله تعالى : ( واضربوهن ) ليس أمرَ وجوب ، وإنما هو إذنٌ ورخصةٌ جاء بصيغة الأمر، فهو كقوله تعالى : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) ولم يقل أحدٌ إن الاصطياد بعد الحلِّ واجب و إن جاء بصيغة الوجوب.
وثمةَ ملحظٌ آخرُ مهم، وهو أن الأمرَ بوعظ الناشز أو من يُخشى نشوزُها هو أمرُ استحباب، في حين أن الأمرَ بالهجر والضرب أمرُ ترخيصٍ وإباحة ، قل من يفهمه ممن طرق أبواب هذا الحصن الحصين إما لغفلة أو قصور فهم ، و لربما مجانبة صواب عصفت بكثير من القلاع الزوجية.
إن من الإساءة للشرع القادحةِ في المروءة أن يتذرعَ أزواجٌ بهذه الآية لإطلاق اليد في ضرب نسائهم ضرباً مبرِّحاً شائناً، فليس هذا من المروءة ولا من الشجاعة والقوة في شيء، وقد عاب الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك وذمّه، فقال: ” يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ “. (متفق عليه).
بل بوّب البخاري في صحيحه بابا سماه : بابُ مَا يُكْرَهُ مِنْ ضَرْبِ النِّسَاءِ وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى: ( وَاضْرِبُوهُنَّ ) أَيْ : ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ.
وكل رخصة في ضرب النساء جاء مقيداً بأن يكون غيرَ مبرح أي غير شائن، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ” وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ “.
ولما أمر الله بجلد الزاني والزانية قال: ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ).
وإنما كان كذلك لأنه جلدُ عقوبة وحَد، مقصودٌ فيها الإهانةُ والإيلامُ النفسي والجسدي ، ولذا أمر أن يشهدَ على جلْدهما طائفةٌ من المؤمنين ، خلافا لضربِ الزوجات الذي لا ينبغي أن يكون بحضور أحد ، و لا يعلمه أحد غيرهما في أرقى أسلوب يدل على المودة و الرحمة ” وجعل بينهما مودة و رحمة “.
ولعل ما تقدم يعد أولى خُطوات التأديب والإصلاح يحاولها الزوجُ وحدَه من غير تدخُّل أحدٍ أو حضوره من خلاله احتواء المشكلة في جو خاصٍ بعيدٍ عن تقاذفِ التُهم، وتصعيدِ المشكلة واستجلابِ مزيدٍ من الخصومة و بالتالي الحفاظ على الكيان الأسري ، و لا يعتقد البعض أن هذا الأمر يدخل في سياق إصلاح ذات البين لأن واقع الأمر يقترن بتدخل طرف آخر في مرحلة ما بعد فقد الزوج السيطرة على احتواء المشكلة أي بعد كل هذه المحاولات المشروعة، أو حينما يفتقدُ الحكمة في الإصلاح والتأديب فتتفاقم المشكلة مع كل محاولة، فلا يجوز أن تُتهمَ شريعةُ الله بأن أساليبها الإصلاحيةَ قاصرةٌ، أو فاشلة لا تناسب ظروف العصر وتغير الزمان.
إن فشل المحاولاتِ الإصلاحية لا يأتي من جهة قصورها واختلالها وعدمِ مناسبتها لكل عصر، ولكنه يأتي من جهتين لا علاقة للشرع بهما، فإما من قصور الزوج في تطبيق هذه المحاولات حين يأخذ بظاهر هذه الأساليبِ الإصلاحية مجردةً عن روحها الذي هو صدق اللهجة وحسن القصدِ في الإصلاح.
إن هذه المحاولات الثلاث لا تجدي جدواها حين يحاولها الزوج بروح الاستعلاء والمراغمة والمغالبة ومحاولةِ إذلال الزوجة وإهانتها بطريقة استفزازية تثير كبرياءها فيتحولان إلى خصمين يتهارشان في حلبة صراع، وما ذاك إلا لأن الأساليبَ قد أخذ بها مجردةً عن روح الإصلاح وصدقِ الرغبة في التأليف.
وقد يأتي الفشل من قِصر نفس الزوج في محاولة الإصلاح ومن قلة صبره واحتماله، فربما تجمل بالصبر والحلم سويعات محاولةً في استصلاح زوجته، ثم تأتي الحماقة والغضب متسارعين فيَحْطِمان كل محاولة.
وقد يأتي فشلُ المحاولات من جهة الزوجة، حين تكون مستعصية على كل إصلاح بسبب طبيعةٍ خاصةٍ رُكبت فيها، أو بسبب قصور في تربيتها وتأهيلها، أو بسبب بغضها الشديد لزوجها فهي تستميت في مفارقته ومراغمته.
وحينئذ يكون شأنُ وسائلِ الإصلاح هذه كشأن وسائل الدعوة التي أمر الله بها في قوله: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) فقد يأخذ بها الداعي فلا يلقى بها قَبولاً لدى المدعو، فليس بالضرورة أن يكون السببُ في قصور أسلوب الدعوة، فقد يكون السببُ فيما رُكِّب في المدعو من كِبْر نفسِه واستعلائها وتأبيها على الانقياد.
أولى مراحل إصلاح ذات البين
إن الحديث عن المحاولات الإصلاحية في مجملها كما أرادها الشرع لكن حين لا يستعلن فيها النشوز، فأما إذا كان قد استعلن وتفارط عِقد الإصلاح من داخل البيت، فهو إذن صراعٌ وحربٌ بين خصمين يستدعي تدخلاً من أطرافٍ أخرى خارج البيت ، لكنه مرتبط بواصلة الرحم حيث قال الباري عز وجل : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما إن الله كان عليماً خبيراً ).
هنا تبدأ الملامح الأصلية و المفاهيم الحقيقية لإصلاح ذات البين، و التي جانب فيها الصواب كثير من الناس و ربما ساق اجتهاد الكثيرين إلى اعتبارها من منظومة إصلاح ذات البين، و هذا شنيع لا دخل للشريعة فيه ، فالواقع يعج بما لا يندرج في مناحي الشرع الحكيم الرامي إلى جلب المصالح و درء المفاسد حتى تستقيم الحياة بما يحقق للبشرية مبدأ الإستخلاف و عمارة الأرض.
إنها دعوة لأهل الزوج والزوجة ألا يقفوا من المشكلة المتفاقمة وقفة المتفرج الذي يتطلع من باب الفضول وحب الاستطلاع لا من باب الحرص على رأب الصدع.
فيتعين أن بُبعث حكمٌ من أهلها ترتضيه ، وحكم من أهله يرتضيه . يجتمعان في هدوء، بعيدين عن الانفعالات النفسية التي كدّرت صفو العلاقات بين الزوجين ، متجردين من هذه المؤثرات التي تفسد جو الحياة، وتعقد الأمور، حريصين على سمعة الأسرتين، مشفقين على الأطفال الصغار إن وجدوا. بريئين من الرغبة في غلبة أحدهما على الآخر، وفي الوقت ذاته هما مؤتمنان على أسرار الزوجين ، لأنهما من أهلهما إذ لا خوف من أن يُفشيا هذه الأسرار، و لا مصلحة لهما في التشهير بها ، بل مصلحتهما في دفنها ومداراتها.
و بهذا يجتمع الحكمان لمحاولة الإصلاح ، فإن كان في نفس الزوجين رغبة حقيقية في الإصلاح ، وكان الغضب فقط هو الذي يحجب هذه الرغبة، فإنه بمساعدة الرغبة القوية في نفس الحكمين، يقدر الله الصلاح بينهما والتوفيق ، وهذا من أعظم إصلاحِ ذات البين التي وعد الله عليها بالأجر العظيم .
فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله ، و عبقت القلوب بنشر طيبه ، فالله الله في السرائر ، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر كما قال ابن الجوزي في صيد الخاطر ، و لهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعزر الحكمين إن فشلا في الإصلاح مذكرا إياهما أن نيتهما هي التي تغلِب و تغَلب في باب الإصلاح مستشهدا بقوله تعالى: ( إن يريدا إصلاحا ) أي: إن حصلت النية في الإصلاح تحصّل التوفيق الإلاهي و الله تعالى أعلم بالسرائر.
و ختاما يظل هذا الباب منزويا خلف الأعراف التي حجبت مقاصد الشرع الحكيم في باحات المحاكم الاجتماعية التي غلب روادها الجانب المادي أو الإشهاري ناسين أو متناسين ما آلت إليه الأسر المغربية في تقاليدها و المشهور في مذاهبها أن الطلاق و صمة عار تلصق بمن طلقت و إن كان أبغض الحلال عند الله ، غير مجحفين حق الساعين لإصلاح ذات البين وفي خطوة سباقة إلى طرق أبواب الإصلاح قبل الخوض في غمار الجلسات التي ينتهي أغلبها إلى إنهاء العلاقة الزوجية.