السياسيةقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

أنا و”الرفيق” متعة القراءة المتجددة

الميزان/ مراكش: ذ. عبد العزيز معيفي

almizan.ma

أنا و”الرفيق” متعة القراءة المتجددة
الميزان/ مراكش: ذ. عبد العزيز معيفي
أصدر الرواني موسى مليح رواية موسومة “الرفيق ” قتبيت سلطنة عمان 1989 ـ 1990 ..
وفيما سيتلو أتقدم بهذه الورقة للمساهمة في الاحتفال الثقافي النقدي لهذا العمل المتميز.
علاقتي بالرواية تعود إلى سنوات الاعتقال التي امضيتها بين جدران سجون متعددة،
طيلة قرابة عقد الثمانينات. سجون مختلفة، لكن المساحة الضيقة التي كانت تحكم حرکتي، والجدران التي تحد من مسافة الرؤية وتضيقها، كما تضيق من وهم الحرية.. هذه المساحة الضيقة، هي نفسها الدافع الذي نَمَّى في “ثقافة الحاجة، وجعلني أروض حواسي، وأجعلها تستمر في إدراك العالم والمجتمع، ولو من موقع الافتراض. هنا يأتي دور المخيلة، لاستعادة حضور الآخر الذي غيبته الجدران: كيف هم الناس من خلال التفاصيل الصغيرة للحياة؟ لا يمكنك أن تدرك لذة الوقائع الصغيرة، وأنت أسير المدركات والتصورات الكبرى..
احد المعذبين الباحثين عن الحرية، وبعد أن قصت جناحاه، واستوى داخل القفص جاءت أمه لزيارته، فأوصاها أن تأتيه بكذا وكذا مون .. وخاصة الزبدة أساسا.. وقد شدّد على كلمة أساسا لأن الغرض من الزبدة في بداية الاعتقال، هو استعمالها في إشعال الفتيل لأغراض الطبخ داخل الزنزانة!!! بحثت الأم المكلومة والمغلوبة على أمرها، على كل الأغراض واحضرتها، ولكنها فشلت في العثور على الزبدة أساسا وقد خاطبت ابنها: يا ولدي، و جدت كلما أوصيتنى به ، ولكنني والله يشهد أني بحثت في كل مكان ولم أعشر على ” الزبدة أساسا ” فما هذا العجب هل هو زبدة أمر شيء آخر ؟!
وأنا أتأمل هذه الحادثة، عجبت لما قد يفعله بنا الانغلاق داخل فضاء مفاهيمي، زيادة على انفلات فضاء السجن، ما يجعلنا نبتعد ما نبض الحياة الحار، وعن نسخ التفاعل بيننا من خلال التفاعل مع حيوات أخرى وبين الذات..
يحصل التفاعل عن طريق الانغماس الشعوري واللاشعوري فيما ستؤول إليه مجريات الحياة.. حصل حين أفرح لشخصية منكسرة استطاعت داخل غابة السرد المتشابكة، أن تحقق ولو قسطا بسيطا من الحفاظ على العنفوان. قد أحزن لمن طوقت بهم المصائر المؤلمة، وافترسهم النسيان، كما یفتر سنی آنا بدوري، وأنا اسعي إلى لي عنق الحقائق، لاستبدالها بما يبدو لى أحق…
بين الحين والآخر، تومض لحظات إشراق شعريه تجعلني أرتقي، وأتهيأ لأداء رقصتى الصوفية، لمغادرة الذات، واعتلاء صهوة براق الحرية، والتجول كما يعن لي فى ملكوت الآتي..
أنا حتما ابن الغد الأفضل، ولكن لا شيء يضمن تحققه، سوى جهد الحفر في صغر الاحرار. وبقدر ما أقتلع ذرّة من الصلد الجامد من وعي الذات، أزداد يقينا أن الحفر الموصل إلى. النبع يتطلب المزيد من الجهد.. وحين افتح عيني على التنوع اللانهائى للمصائر الإنسانية أدرك كم يفرحني تتبع البحث عن خيط الكرامة الإنسانية المتشابك والمعقد بفعل آثار القمع والمصادرة ..
بقدر كل ذلك أدرك أيضا ما تتبعه عزلتي من اكتشاف النفائس الفلسفية، والتي بدونها لن يرتقي الوعي ويحقق مكانا أليق في الوجود.. ذاكـ النبع الذي يسيل من الرواية ، أعب منه ، ولا أرتوي، لأن الظمأ كامن في ثنايا الأحشاء ..
رواية “الرفيق” لموسى مليح، التي تجري مع هذا السلسبيل، مكنتني من إعادة دوزنة ” حواسي ، على مقام سرد بادخ، تهز شجرة الزمان ، وتجعل فواكه الروح في المتناول، حين تهبط من علياء الاستقصاء.
وأنا أتتبع خطو السارد، طيلة مسار حكائي متعرج، ملتو، پوشك أن ينقطع أحيانا تنقطع معه أنفاس الترقب.. ولكنه يعيد الانطلاق بدافع الشعور الإنساني الفني العميق.. وأنا أتنزه في تضاريس الصحراء المتحولة، اكتشف أن الزائل والمتحول والمتغير في الصحراء، يخفي دائما ما سيأتي ويبشر به.. كذلك حكاية “رفيق” جمع ما تغرق في ” الرفاق” وكشف كل ما صنعته وقالته حركة معارضة ثورية، تطلعت ذات زمان إلى استنبات واحة للحرية في صقع من الأصقاع النائية والبعيدة عن الأرض التي نشأ بها الكاتب ملیح سعى في الأرض لينفض رماد النسيان عن حلم
کاد فيما مضى أن يبنى عشا عظيما للحرية والكرامة. وحركة ظفار اهتزت كموجة عمق
، Lome” de fond
وارتطمت بجبروت الامبريالية، مدعمة بمن يتزلف لها من الانظمة المداهنه لها. فكان ما كان .. واستشهدت “الحركة ” لكن جدوتها الثقافية، وممانعتها، ونقشها للمعاني الانسانية الحقيقة التي تَلُف مصير الانسانية .. كل ذلك أعادته “رواية ” ” الرفيق ” إلى الوجود بعد أن نفضت عنه غبار النسيان، وأحالت الصحراء إلى رحم لولادة متجددة للقارئ النموذجي رواية ” الرفيق” أقحمتني دوم ما انذار في عالم غريب كل الغرابة : مكان في صحراء مقفرة في سلطنة عمان، اكتسب قوة فنية
جعلته ناطقا وشاهدا على ما مضى. قتبيت أشبه بالصفرة التي تربض في صورة غلاف الرواية، على مشارف الرمال المتحولة، تجسيد الرمز الثابت ، كما تجسد الشاهد على ما ” و”من” مَرّ من هنا..
هذا المرور مثلته ثلاثة رماح.
رمح أول بقي بيد السارد الذي تداخل مع نسيج متشظي حكم بناء الرواية ، وأمد تطورها الحكائي بنسخ التشابك المفضي الى الاحتفاء بالقضية التي جعلت منها حركة ظفار سببا لوجودها، وهي قضية الحرية والعدالة الاجتماعية…
الرمح الثاني، ترمز إلى المصائر المتعددة والمتنوعة والمتقاطعة لشخصيات تمثل أصقاع متعددة من عالم سمي ذات زمان عربيا شخصيات ناطقة بلغة المنفى والطموح وانسداد الأفق والرجاء
السارد قدم تعدد أصوات هؤلاء، وفتح كوة داخل وجدان ومخیال ورؤية كل واحد من هذه الشخصيات، ليغزل خيوطا موصلة الى ترقية وجودهم ب “قتبيت”، ليصبح ثمن الغربة هو الاقتناع بالمصير المشترك، و هو ما سعت إليه حركة ظفار يوما. السارد سیجعل قضية الحرية شأن كل مواطن غيور على الكرامة الانسانية في كل المعمور…
الرمح الثالث، وتلقفه ” الرفيق” ليسهر على صيانة تراث حركة ظفار النضالي والثقافي.
وطبعا فموسى مليح يراهن هنا على جعل رواته رواية قضية Roman at these موظفاً المرافعة والبيان والإعلان الخ … أشكال تواصلية تحيل على الموروث السياسي، ولكن قبل كل شيء تحيل على يقظة الضمير، وعلى المراهنة على ترقية وعي القارئ وحسته الجمالي، وحبه للصحراء الموغلة في الكفارة، وتعلقه بأسمى ما يملكه الانسان و هو الحرية ..

عزیز معیفي
مكناس 17 ماي 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى