كتاب الراىمنوعات

الوصلة / خاطرة

الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور سعيد الناوي

almizan.ma

الوصلة / خاطرة
الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور سعيد الناوي
25 شتنبر 2023
أعذرني يا صاحبي إنْ انا ذكرتُ لكََ كلمةً قديمة، “الوصله “: و قد تعني لك كل ما له علاقة بالموسيقى؟! ،
و لكنها أعمق و أثقل و أنفذ من مجرد موسيقى ، لأنها كانت القاسم المشترك بين الساحقة من المغاربة، ممن كانوا يطهون خبزهم بالفرن البلدي أو فرز الحي أو الدرب أو الدائرة….ممن ليس لديهم فرن منزلي يفي بالغرض.
كانت الوصلة لوحا خشبيا غالبا، يوضع عليه الخبز النيء، و يحمله الأطفال فوق رؤوسهم ، ممن يقدرون على وضع الوصلة فوق الرؤوس دون أن تميل إلى جهة من الجهات، فتنقلب ، فينقلب نهارهم سوادا، مع إستبعاد من كان رأسه مستطيلا ، أو منتفخا من جهة الوسط، كأنه كرة “ريكبي”،
فهو نوع بشري مؤهل أكثر من غيره لإسقاط اللوح و الخبز ، و تبا له و لرأسه المحدودب ، المكور من جهة ،
أو المستطيل من الجهة الأخرى، الذي لا يشبه إلا رؤوس الظالمين!
فمثل هؤلا،ء غير مرحب بهم، و لا مؤهلين لحمل الوصلة و غير جديرين بالثقة! ما لم يكن مخلوقا مٌستوي الرأس، من القادرين على حمل “الوصلة”، و أخذ توازنه، والحفاظ عليه أثناء المشي والمسير، لكي لا تقع، تحت طائلة أن يبيتَ ملعونا ، مدموما ، مدحورا، مقيدا إلى زاوية أو ركن شديد، و أن يٌجلد أو يٌثفلَ عليه، و لن أعد عليك عدد أنواع السباب و اللعن الذي سيكون من نصيبه، إن هو أسقط الوصلة؟!
و لهذا، يكون من المفيد أن يحملها الكبير القادر… وكأنها نعش ميت ، لما بين الحالتين من التوقير للمحمول فوق اللوح، لأن الخبز كالإنسان الميت:” له حرمته “، كما الخبز “حرمة”، و لهما معا قدسية! و كم قيل لي أن حمل وصلة الخبز كحمل نعش الميت، إلى القبر لما في ذلك من الأجر !!
في حقيقة صباي ، كنت أعلمُ أن والدتي لم تكن صادقة مائة بالمائة في القول المأثور عن غيرها، و إنما هي حيلة لتشجيع الشباب على” السخرة “، و التطوع ، لاسيما أن الميت قد يكون مقتولا، لا ميتا بانقضاء الأجل العادي، وبهذا فالخبز ليس كمن يٌقتل على يد الغير،
ثم إن الناس تأكل الخبز، و الميت لا يأكله أحد…؟! زد على ذلك أنني كنت من النباهة، بمكان و على قدر يجعلني أستوعب أن التشبيه من باب التشجيع، فلا تنطلي علي دائما حيل والدتي و هي كثيرة لا تعد !!
المهم أن حمل الوصلة واجب مجتمعي، وقاسم مشترك بين من يملك و من لا يملك، بين المعدومين و متوسطي الدخل، و كثير ما كانوا…. كان الأشداء من الشباب يضع الوصلة بين يديه و جنبه، ممن إحنرف حمل الوصلة، و الباقي لا يستطيع أن يجازف، لاسيما إذا كان غرا صغيرا و برعما دقيقا، وأنا لا أستطيع أن أحافظ على توازن الوصلة إلا على رأسي، و قد كانت صفحة رأسي “راضية مرضية ” مستوية، مؤهلة لحمل الوصلة، و لو أنني أعلم أنه لا علاقة لحمل الوصلة بحمل الميت و لا بأجر و ثواب المسير مع الجنازة!!
أذكر أن بعض المتسولين كانوا أذكياء بالقدر الذي لا تبدو عليه علامات البؤس، فيسألك بعضا من الخبز إذا انتهى الطاهي من طهييه، و تسلمتَهُ أنتَ عائدا به إلى البيت، ولأنكَ مِمَّن تمتْ تنشئتهم على الإحسان، فإنك لا تبادر إلى بتر جزء من الخبز، بل تترك المبادرة للمتسول الخفي ، فينهش ربع الخبزة لأنه لئيم؟؟
و ها أنت تواجه من تدفع بجلال الخبز و قدسيته، والدتك…. وقد تسعى إلى لسعك من جوانبك حر لسعة، لولا أنك غر صغير عزيز، فتكتفي الوالدة بتنبيهك إلى أن المتسولين حذاق، “شطار” فاحذر…!
أنكر كل هذا، و أذكر قبل هذا، كيف يتم وضع الخبز النيء فوق السرير و غيره، في انتظار أن ينتفخ بفعل الخميرة؟!
كان موضعه وطريقة وضعه قريبة من موضع المواليد من الأطفال..”لا تقترب منه” ” إحذر أن تجلس و تخلط العجين” “إياك و العجين ” “أتظر العجين” “….. و تسعى الأم لكي تجعلك عليه حارسا، و قائما أطراف الصباح، بالملاحظات و التتبع و البحث عن ما إذا انتفخ، فإن صار و لنتفخ ،فلتقفْ، و إذا وقفتَ فأنتظرْ أن يُوضع اللوحُ فوق رأسك، و إذا وْضِعَ، فأنتَ مدعوٌّ لتبليغ الرسالة إلى الفرن الفلاني لا الفرن بالعلاني….
و إذا رجعتَ، فستعودٌ لافتكاك الخبز، و عليكَ أنْ تتذكر كم عددُ دوائر الخبز ، و قدكانت عادتنا أن نضع “عجلتين “كبيرتين من الخبز ، و أخرى صغيرة، و من نوع معين من الدقيق ….فلا أوجبً من حمل الخبز و افتكاك الخبز، إلا معرفةٌ نوع الخبز و عددٍ الوحدات…!!!
الأهم من المهم أنها عادة قد انقرضت بدارنا، و لعلها في عداد من انقرض… وكم كان الخبز يوحد الكثير من الناس، فاختلفوا… وعساه بقي ، لكي لا يعلو الأعلون كثيرا عن من هم في الدرك الأسفل من الهرم، حتى اختفى أثر الأعلين، و صار الهرم منفوخ القاعدة ، دقيق القمة، خاوي الوسط، حتى صار صدر الهرم منخورا، و لو بقيتِ الوصلةُ، لكانَ صدرُ الهرم عامرا بالناس، و لن يهم أن تعتلي و تعلو و يختفي رأس الهرم أو أن تضخم قاعدة الهرم، لأننا سنستأنس ببعضنا في وسط الهرم،
و أمَّا وقد اختفتْ الوصلة، فقد ضاقتْ قاعدةُ الهرم على أصحابها إلى حد الاختناق ….
سعيد الناوي غفر الله له و تجاوز عنه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى