الفقه والشريعةمنوعات

تيسير الحكم العطائية 15

الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور لرزق

almizan.ma

الحكمة الخامسة عشرة
(مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى وُجُودِ قَهْرِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ حَجَبَكَ عَنْهُ بِمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مَعَهُ.)
تعريفات:
قهر: يَقْهَر، قَهْرًا، فهو قاهر، وقهَّار، والمفعول مَقْهور: أجبره.
والقاهِر: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: الغالب، الذي غلَب المُعانِدين بما أقامه عليهم من الآيات الدّالّة على وحدانيَّته، والذي يغلب ويقصم ظهرَ الجبابرة من أعدائه بعزّ سلطانه، والذي يغلب المخلوقات جميعًا بالموت.
حجب: يَحجُب، حَجْبًا وحِجابًا، فهو حاجِب، والمفعول مَحْجوب. وحَجَبَ الشيءَ وحَجَّبَه: سَترَه.
دلَّ: دَلالةً ودِلالةً، فهو دال، والمفعول مدلول عليه. ودلَّ الشَّخصَ على الشَّيءِ: أرشده وهداه إليه، قاده، عيَّن له المكانَ. مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ (حديث)
قد علمت أن الكون ظلمة وهي عدم محض، فكان الله ولم يكن شيء غيره وكل شيء هالك إلا وجهه، وكما جاء في الحديث (إن الله خلق الخلق فجعلهم في ظلمة واحدة فأخذ من نوره فألقاه على تلك الظلمة فمن أصابه النور اهتدى ومن أخطأه ضل)، وأن الوجود الحقيقي من كل وجه لله تعالى وحده، وكل ما سوى الرب لا يوصف عند العارفين بوجود، (وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ).
و(مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى وُجُودِ قَهْرِهِ سُبْحَانَهُ) لعباده أن أظهر الأشياء من العدم فخصصها سُبْحَانَهُ بإرادته وأبرزها بقدرته وأتقنها بحكمته وتجلى فيها بعلمه.
ومن مظاهر قهره كونه (هو الأول والآخر والظاهر والباطن) فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله ودونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فكان احتجابه في ظهوره، وظهوره في بطونه، وبطونه في ظهوره، كيف يتصور أن يحجبه شيء وهو الذي أظهر كل شيء سبحانه وتعالى. فالمخلوق يحجبه مخلوق مثله عما هو دونه، فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب. والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد)، فالمحجوب عن مولاه هو أنت (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) فأقفالها منها. فلا حجاب للخلائق عن الحق عزوجل إلا وجود الخلائق، ولكل حجاب ظلمة خاصة تحجب الواصل، وتوقف السالك، وتنكس الطالب عن مذاقات أهل القلوب والأرواح. والتلوث بالأعراض والالتفات أو الميل أو الأنس بها قيد للقلوب عن سفرها إلى بلد حياتها ونعيمها في حضرة باريها الذي لا سكن لها غيره، ولا راحة لها إلا فيه، ولا سرور لها إلا في منازله، ولا أمن لها إلا بين أهله. ولما كانت الخلائق كلها عدم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) فكيف يصح احتجاب العدم بالعدم إلا بحكم الله عليه وقهره (أَنْ حَجَبَكَ عَنْهُ بِمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ مَعَهُ) أصلا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ).
وأما الظاهر سبحانه فما حجبه إلا شدة ظهوره، وما منع الأبصار من رؤيته إلا قاهرية نوره، فاحتجاب الخلق بالخلق دليل على ظهور الحق بالحق على وجه العظمة والجلال بكل وجه وعلى كل حال إذ (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذلك وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِين).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى