الفقه والشريعةكتاب الراىمنوعات

الحكم العطائية 14

الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور لرزق

almizan.ma

الحكمة الرابعة عشرة
( الْكَوْنُ كُلُّهُ ظُلْمَةٌ ، وَإِنَّمَا أَنَارَهُ ظُهُورُ الْحَقِّ فِيهِ ، فَمَنْ رَأَى الْكَوْنَ وَلَمْ يَشْهَدْهُ فِيهِ أَوْ عِنْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَقَدْ أَعْوَزَهُ وُجُودُ الأَنْوَارِ ، وَحُجِبَتْ عَنْهُ شُمُوسُ الْمَعَارِفِ بِسُحُبِ الآَثَارِ).
تعريفات:
الْكَوْنُ: (اسم) جمع كَون. وهو الوجود المطلق العام‏ المفتقر إلى موجد (أي خالق).
وهو كل ما كونته القدرة الإلهية وأظهرته للعيان. والكون من حيث كونتيه، وظهور حسه كله ظلمة لأنه حجاب لمن وقف مع ظاهره عن شهود ربه، ولأنه سحاب يغطي شمس المعاني لمن وقف مع ظاهر حس الأواني.
ظُلْمَةٌ: ضد النور وهي عدمية والنور وجودي .
ظهور الحق: تجليه. (فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا) قال الربيع بن أنس: وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور، صار مثل دك من الدكاك. وقال بعضهم: (جعله دكا) أي: فتته. (فلما أفاق) من الغشي ( قال سبحانك ) تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات . وقوله : ( تبت إليك ) قال مجاهد : أن أسألك الرؤية ، ( وأنا أول المؤمنين ) قال ابن عباس ومجاهد : من بني إسرائيل .
أَعْوَزَ: احتاج، افتقر، ضاقت أحوالُه وساءت.
العدم ظلمة، والوجود نور، ف (الْكَوْنُ كُلُّهُ ظُلْمَةٌ) بالنظر إلى ذاته لأنه عدم مظلم لا وجود له بذاته، وما كان كذلك فكل تعلق به باطل، (وَإِنَّمَا أَنَارَهُ ظُهُورُ الْحَقِّ فِيهِ) فظهر فيه بعلمه وحكمته وإرادته ثم قدرته وذلك بإتقانه وإحكامه وتخصيصه ثم إبرازه، أي ظهور إيجاد وتعريف لا ظهور حلول وتكييف، باعتبار تجلي نور الحق عليه، وجود مستنير (الله نور السموات والأرض) تجلّى عليه بذاته وقال له كن فكان وهو قادر على إعدامه في الحال. وإليه أشار الششتري بقوله: ” لا تنظر إلى الأواني، وخض بحر المعاني، لعلك تراني “، ثم اختلفت أحوال الناس في شهود الحق على ثلاثة أقسام عموم وخصوص، وخصوص الخصوص.
فَمن الناس (مَنْ رَأَى الْكَوْنَ) من حيث ذاته لتعلق أغراضه وشهواته به وحجبته المكونات الشبيهة بالسُحُب عن المكون فكانت في حقه ظلمة فلم يشهده سبحانه (وَلَمْ يَشْهَدْهُ فِيهِ أَوْ عِنْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ) أي فلم يشاهد تأثيره فيه (فَقَدْ أَعْوَزَهُ وُجُودُ الأَنْوَارِ) فصار محتاجا لها لفقدها عنده (وَحُجِبَتْ) أي غابت عنه (عَنْهُ شُمُوسُ الْمَعَارِفِ بِسُحُبِ الآَثَارِ) أي المعارف الشبيهة بالشموس الكاشفة عنه الحقائق الموصلة إلى حضرة القدوس. ومن الناس من لم يحجبه الكون عن المكون سبحانه وتعالى بل شهده فيه بتأثيره وعنده بحفظه وتدبيره وظهور معاني أسمائه الحسنى بها وهؤلاء الذين يشهدون الأثر والمؤثر معا، فهي في حقهم مرايا هداية (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) فأذن لك بالنظر لا بالوقوف مع ذوات المكونات.
فمنهم، من أهل الحجاب، من لم يشاهد إلاّ الأكوان لانطباع ظاهر صورها في سويداء قلبه، وحجب بذلك عن رؤية المكوِّن، فهذا تائه في الظلمات محجوب بسحب آثار الكائنات الوهمية لم يهتد لمولاه الحق بقيد طابع الأكوان على مرآة قلبه واقفا مع شهواته منجسا بجنابة غفلته المانعة من تيقظه من هفواته منحازا إلى الخلق بلا حق. ومنهم، من أهل العرفان، من لم يحجب بالأكوان عن المكون، قد نفذت بصيرته إلى شهود الحق، فرأى الكون نورا فائضا من بحر الجبروت فصار عنده كله نورا. ثم هم في مشاهداتهم إياه فرق أربع كل بحسبه:
من شهده في الكون: بالنظر لعموم تصرفه سبحانه فيه ابتداء ودواما لآخر وجوده، فيرى كل شيء قائما بالله، فانيا عن نفسه متحققا بقوله عز وجل (الله خالق كل شيء).
من شهده عند الكون: بالنظر إلى ربه فهو القائم عليه بما يجب له من الحقوق، والقائم له بما يحب منه من الحظوظ. عند ذلك يستهلك العبد كل وقته مع ربه بين مراقبته بالشكر على ما أسدى من نعمة، فيشغله الثناء على الله عن أن يكون لنفسه شاكرا، وبين مراقبته بالقيام بما وجب عليه من مطلوب فتشغله حقوق الله والقيام بواجب عبوديته، عن أن يكون لحظوظه ذاكرا فلا تبقى له شهوة لاستغراقه في الحقوق. كما قال الشيخ أبو سليمان الداراني (إني لأخرج من منزلي، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عليٌ فيه نعمة ولي فيه عبرة). متحققا بقوله عز وجل (وهو على كل شيء وكيل) أي قيامه عليه وذلك يقتضي ظهوره عند كل شيء (ووجد الله عنده فوفاه حسابه).
من شهده قبل الكون: (هو الأول والآخر) قائما سبحانه بنفسه بلا علة. فهو الموجد لكل شيء، حتى يرى أن كل شيء مستحق لوجوده والتوكل عليه؛ فكل شيء يكون بإرادته، فلا يغفل عنه لرؤيته كل شيء منه.
من شهده بعد الكون: وهذا حال عوام الناس، حين يغفل عن التصريف والقيام بالأمور والإبرام للأحكام حتى يقع في أمر يريده فيذكر منة الحق بتيسيره، أو في ضده فيذكر قهره سبحانه في تعسيره. فحكمه الحكمي مرتب على أفعال عبده حسب اقتداء حكمته التي منها وضع أمره ونهيه، المرتب عليه ثوابه وعقابه، بصدور الأفعال منه على وجه من التحقق والتحقيق.
ومن فاته ذلك كله فقد (حُجِبَتْ عَنْهُ شُمُوسُ الْمَعَارِفِ بِسُحُبِ الآَثَارِ) فهي تغطي الحقيقة ولا تذهب بها رأسا، فتضعف نور شمس المعارف، وتعرض له ولا تدوم عليه كما تفعل السحب بأشعة الشمس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى