بمناسبة اليوم العالمي للمسرح الملحمة المغربية/ نبش في الذاكرة
الميزان/ الرباط: بقلم ذ. عبد القادر البدوي
almizan.ma
اليوم العالمي للمسرح يوم يحتفل فيه العالم بأب الفنون وبدوره في النقلة الحضارية و الديمقراطية التي شهدتها أوروبا و ما بات يعرف بالعالم المتقدم.احتفل العالم لأول مرة بالمسرح في 27 مارس 1962، وتحول هذا التاريخ منذ ذلك الحين إلى يوم يجدد فيه العالم عهده مع المسرح في الحفاظ على هذا الفن التنويري كمقوم أساسي من المقومات الفكرية و التنموية للأمم ومن الوسائل الحضارية لدعم الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان في الدول المختلفة. يوم يقرأ فيه المسرحيون عبر العالم المشهد الإنساني الكوني من خلال مسرحهم، ويكفي أن نلقي نظرة على بعض المشاهد من مختلف الأعمال المسرحية التي تعرض عبر العالم لنأخذ فكرة عن المشهد الثقافي الدولي وعن المستوى الفكري و الفني و الاقتصادي والتعليمي والاجتماعي والسياسي لتلك الدولة وغيرها. فالمسرح مرآة الشعوب يحاكي منذ الإغريق إلى اليوم تاريخ وحاضر الأمم كما يستشف مستقبلها في ظل تلك المعطيات.
فمن خلال الاطلاع على النصوص المسرحية التي يقدمها المسرحيين عبر العالم في عروضهم يمكن أن نقيس مثلا حجم حرية التعبير في تلك الدول والذي يتسع كلما كان المسرح يقدم في مناخ ديمقراطي يستوعب النقد وطرح القضايا الإنسانية المختلفة و اختلاف الرأي و يحترم المعارضة البناءة و بالتالي يحفز و يشجع على الإبداع، بينما يضيق حجم حرية التعبير في الدول التي لازالت تعاني من الاستبداد والفساد مما يؤثر على فن المسرح، حيت يتراجع النص المسرحي أساس العرض المسرحي ببعده الفكري والتنويري والنقدي، ليحل محله “فراغ” يملؤه مسرح التفاهة والابتذال والسطحية والفرجة “الشعبوية” الفارغة من أي مضامين فكرية أو نقدية يمكن أن تشكل إزعاجا لسلطة ما، مسرح يكرس للتخلف والجهل الذي يغذي ويقوي الاستبداد والفساد.
عندما احتفل العالم لأول مرة بالمسرح سنة 1962 كنا في مغرب الستينات نكتب فصلا جديدا من ملحمة استقلال الوطن، ملحمة كان لنا شرف المشاركة في صياغتها بنضالنا كمواطنين مغاربة و كمسرحيين مقاومين للمستعمر الفرنسي من خلال مسرح مغربي وطني لعب دورا محوريا في استقلال الوطن، حيث ساهم آنذاك في زرع ثقافة الإنتماء لهذه الأمة لدى الجماهير المغربية بمختلف فئاتها، كما ساهم في تشكيل وجدان و وعي المغاربة و في التوعية بالقضية الوطنية الأولى آنذاك و هي الإستقلال عن فرنسا.
عشنا في ذلك التاريخ كمسرحيين مغاربة شبابا مناضلين من أجل بناء مغرب الإستقلال إلى جانب بعض زعماء الحركة الوطنية فصلا سوداويا في مواجهة القوى السياسية الرجعية و فلول الإستعمار أو “الخونة” كما كان يطلق عليهم أيام المقاومة الشعبية للمحتل، حيث لم يتم عزلهم عن العمل السياسي كما هو الحال في معظم الدول التي استقلت عن محتليها بل تولى بعضهم ببلدنا للأسف القيادة السياسية في مرحلة الإستقلال و اشتغلوا في “الكواليس” بتنسيق مع المحتل السابق من أجل إفشال و نسف معظم المشاريع الوطنية التي تهدف إلى التخلص من كل أشكال التبعية. و من أهم القطاعات التي تعرضت إلى تعطيل مشاريعها الوطنية هي قطاعي التعليم و الثقافة، و هي القطاعات التي تراهن عليها الدول من أجل تحقيق التنمية و النهضة ومن أجل التحول الديمقراطي.
كنا نؤمن أن الاستقلال هو بداية و ليس غاية، و بأن استقلال المغرب لن يكتمل إلا باستقلال ثقافي يحترم المرجعية و الخصوصية المغربية و يرفض في نفس الوقت كل أشكال “الوصاية الثقافية” لفرنسا على المغرب، لأن هناك فرق كبير بين التعاون الثقافي بين الدول بشكله الديبلوماسي المتعارف عليه و القائم على احترام الثقافات المختلفة و هويات الشعوب، و بين المشروع الفرنكوفوني بإديولوجيته الاستعمارية الني تستهدف مقومات الهوية المغربية و على رأسها اللغة العربية.
المسرح المغربي في الستينات شكل حراكا ثقافيا مؤثرا في الجماهير بمختلف فئاتها و انعكس تأثيره على الحراك الاجتماعي الذي قادته النخب المغربية احتجاجا على المخططات السياسية الرجعية التي كانت ترسم آنذاك و التي كانت تؤسس لردة ثقافية و اجتماعية و اقتصادية تهدر مكتسبات الإستقلال. حراك النخب المغربية و الجماهير آنذاك واجهته السلطة بموجة من القمع و الاعتقالات ثم بدأ مسلسل هدم المسارح و إغلاق قاعات العرض السينمائي و المسرحي و دور الشباب و تفتيت معظم التنظيمات و النقابات المهنية الفنية التي كنا نحاول كفنانين الإصطفاف فيها من أجل الدفاع عن حقوقنا و التي كنا نطالب من خلالها بإشراكنا في رسم السياسة الثقافية التي تخص القطاع الفني في المغرب بما يحترم مرجعيتنا الوطنية و هويتنا المغربية. و هكذا تم إرساء مشروع ثقافي “هزيل” معاكس لتطلعاتنا، انعكست نتائجه الكارثية على مغرب الثمانينات و التسعينات و الألفية الجديدة بمشهد فني و سمعي بصري يطبع معظم منتوجه الإبتذال و الإسفاف و السوقية و الاستيلاب الحضاري و احتلال اللوبيات الفرنكوفونية للمشهد الفني و الثقافي و السمعي البصري المغربي و “فرنسته”.
أردت أن أعود بكم في هذا اليوم العالمي للمسرح إلى مسرح الستينات في المغرب لأعطيكم لمحة عن المسرح المغربي في تلك الفترة و عما قدمه المسرحيون المغاربة من تضحيات من أجل بناء مغرب الإستقلال، و من أجل إرساء قواعد الديموقراطية في المغرب، و الذين أسقط معظمهم من الدراسات التي تناولت “تاريخ المسرح المغربي” التي أعدها بعض “مثقفي السلطة” و ذوي الأجندة الفرنكوفونية في المغرب، لأنهم قاوموا المستعمر و انتقدوا الفساد و الإستبداد و لم يبيعوا ضمائرهم، و لم يسمحوا لأي قوى غربية أن تجندهم ضد وطنهم، بل مارسوا المسرح مؤمنين بدوره في تحرير العقول و تحرير الأوطان.
أحمد الله عز و جل على نعمة الحياة التي وهبني إياها لأظل صوتهم و لأحكي حكاياتهم الملهمة للأجيال الصاعدة في المغرب و العالم، حكاية المسرحيين المغاربة الذين اختاروا أن يكون المسرح هو سلاحهم لتحرير وطنهم، هو وسيلتهم الحضارية و السلمية لمواجهة الإستبداد و الفساد و خفافيش الظلام؛ حكايتهم تبعث الأمل في النفوس التي أصابها اليأس و الإحباط، تذكرنا بأن ملحمتنا المغربية و العربية و الإفريقية لازالت مستمرة بفصولها المشوقة بين انتصارات و انكسارات، ملحمة سيكتب فصولها القادمة بعزة و كرامة شباب هذه الأمة.
الدار البيضاء في 27 مارس 2019