السياسيةقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

استبدال

الميزان/ مراكش: ذ. عبد العزيز معيفي

almizan.ma

استبدال
الميزان/ مراكش: ذ. عبد العزيز معيفي
حُشرت مع مجموعة من المختطفين، ينتظرهم ما ينتظرني، داخل سيارة نقل كبيرة.. انطلقت في منتصف ليل شتوي من ليالي يناير الباردة.. ألقى أحد المختطِفين نظرة سريعة على قيودنا، وأمرنا ألا نزيل “البانضة”، ولم يتورع عن تهديدنا، دون أن ينسى أن يشتمنا، ويلعن اليوم الذي ولدنا فيه..
أين الوجهة؟ ماذا ينتظرني؟ أسئلة لا أملك وقتذاك، ولو فرصة صغيرة لأقلب فيها، وأنبش في بعض التفاصيل المحيطة، للعثور على أرهف خيط يُمكن من الاستئناس بما أنا فيه من عذاب..
كل شيء كان يُشعرني أني تحولت إلى كومة من الأوجاع.. ومع ذلك هل سيُلقى بهذا الجسد في حفرة عفنة، وينتهي الأمر بضربة أو بطلقة واحدة، ثم يأتي البياض ليلُفّ وجودي؟ غير أن شعرة ما، نفس ضئيل، أقرب إلى الخفوت.. يجعلني أتعالى عن الإحساس بالاستسلام، واتشبت – فيما يشبه الغريزة – بالرغبة في الوجود…
هل هي رغبة، أم نزوة عابرة، أم قوة باطنية مهما ضؤلت، تربطني بما تبقى من شعور بالحياة ؟؟
سارت السيارة لساعات، لم يكن يُسمع خلالها إلا هدير لمحرك، وصوت العجلات على الاسفلت.. وكأنها سياط تجلد ما تبقى من جسدي..
استدارت السيارة، ومالت بقوة، ما جعل كل المختطفين يرتطمون ببعضهم، وكأنهم براميل غير مثبتة، ثم توقفت فجأة، فيما يشبه التوقف الاستعراضي.. لا أدري.. هؤلاء الذين يؤدون “عملهم في خطف وتعذيب إنسان يشبههم، ويختلف عنهم – فقط – بما يحمله من نظرة للحياة”، هل يحسبون فعلا أن ما يقترفونه من فظاعات، يُعد – حقيقة – عملا يقتضي التفاني والاخلاص والمسؤولية ؟!!
أمر الجميع بالنزول من السيارة، وهي عملية غير يسيرة، لأن العيون ممنوعة من أداء أدوارها بسبب حبسها بعصابة، يسمونها هنا: “البانضا”. ولذلك كنا نتعثر عند كل خطوة. أما الأعضاء السفلية فقد كانت شبه مخدرة، بسبب ضيق السيارة، وتكدسنا فوق بعضنا لذا لم نتمكن من إطلاق أرجلنا، وتغيير وضعية الجلوس.. فكانت الخطوات الأولى، كمن يحاول المشي بعد رقاد دام سنوات..
كنت أتتبع ما يجري من تحت “البانضا”، فبعد مجهود خارق باستعمال الحاجبين كرافعة، استطعت أن أرفع قطعة الثوب اللعينة، قليلا إلى الأعلى، وبذلك ضمنت قليلا من النور يسمح بالرؤية.. على الأقل لأتعرف على المكان الذي سيتحول – ربما – إلى قبر سيأوي ما تبقى مني..
صرخ أحد الحراس، وهو يستقبلنا حاملا قضيبا حديديا يداعبه في يده:
ـ ممنوع الكلام.. أنس من أنت، وتذكر فقط الرقم الذي سنعطيك إياه، ونناديك به، فان تغافلت أو نسيت، “غادي نسلخ إمّاك”!!
كل شيء كان ينز فظاعة، تفاصيل مستعارة من الجحيم.. قبو مظلم خال من النوافذ، منفتح على فضاء دائري، تتوسطه من اليمين باب تؤدي إلى المخادع التي تأوي كل من زار هذا المكان الرهيب.. أما جهة اليسار، فتفضي إلى قاعات التعذيب والاستنطاق.
أمرني الحارس الذي يحب أن “يسلخ أمهات الجميع”! ـ كما فعل مع الآخرين ـ أن أخلع ملابسي. بعد الامتثال لهذا الأمر العبثي، وقفت عاريا ارتجف من البرد، فناولني قميصا وبنطالون “کاكي”، وعباءتين مهترئتين، ثم قال:
ـ رقمك “94”، ستلزم مكانك في الغرفة الثانية، وإذا سمعت رقمك، قم في الحال، والا “نسلخ إيمّاك “!!
أجبت:
ـ نعم آآ
أضاف:
ـ “الحاج”، والأخرون تنادي عليهم “الشاف” يا الله.. مكانك، وعنداك تْزُوّل “البانضا” أو تتحدث مع آخر.. أنت تعرف غادي “نسلخ ایمّاك” !! …
عين لي حارسٌ آخر مكاني، ففرشت فيه ملاءة لم يبق منها إلا الاسم!! بَهتَ لونها، وأصبح مائلا الى خليط من الاسود والبني الغامق، تنبعث منها رائحة عطنة، تجعل كل من يشمها على الأقل ينسى الرائحة الطبيعية للموجودات. يمكن أن تنسيني رائحة العرق النفاذ الذي ينبعث من جسدي، ومن أجساد بقية المختطفين، وهم ممددون بقربي في نفس الغرفة بلا حراك ..
طويت الملاءة الثانية، وأحللتها محل الوسادة، و تمددت في مكاني، وأنعمت لأول مرة ببصيص من الاستكانة في انتظار ما سيلي..
معتقل درب مولاي الشريف، هو ـ في الحقيقة – الواجهة الخلفية لمركز الشرطة بالحي المحمدي، بمدينة الدار البيضاء.. ربما بياض هذه المدينة كناية عما تخفيه من مجاهل… البياض ملطخ بالعديد من مراكز العار التي تبتلع المختطفين، وتعلق حياتهم بين الانتماء للوجود، أو محو أي أثر لهم .. كل هذا لأنهم رفضوا تقليص ذكائهم، كما رفضوا التعايش مع الرداءة، وأعلوا صوت الكرامة الإنسانية في بلد يسترخص قيمة ما ينتجه المجتمع من نخب شابة ذكية وسوية.. ستتحول مراكز الاختطاف إلى القاعدة، ويبقى الاستثناء متمثلا في ما يشبه الانخراط الكامل في الحياة المزيفة، أو ما يسميه “سارتر”: العدم…
القاعدة هي: أنت متهم إلى أن تثبت براءتك… ولذلك علا شأن زوار الليل” في فترة من أحلك فترات المغرب الحديث: فترة الثمانينيات، وتحول مركز ما يسمى بالفرقة الوطنية إلى مصيدة للإطباق على الرافضين، وكنت من بينهم.. حاولت أن أوقف شريط الذكريات، لأنها أشبه بالأمواج الجبارة داخل محيط أهوج، وإن ابتلعتني لن أتمكن أبدا من العودة الى حيث أنا الآن: مُغيب في دهليز من دهاليز درب مولاي الشريف. كان علي أن أتدبر وجودي في هذا الجحيم على وثيرة “متناقضة القنفذ” حسب الفيلسوف شوبنهاور، بحيث كنت استلذ العودة إلى ذكرياتي الجميلة، لكن كنت أخشى أن تتمزق شبكة الادراك جرّاء ما أنا فيه، وما سأواجه عندما أعود إلى جحيم الواقع.. ومع ذلك راهنت على أن أحدو حُدوَ الماء، وهو يتسلل بين الشقوق، ويخترق ما بين الصخور، ليسيل كما يحلو له..
عادت بي الذاكرة إلى ارتباطي بجمعية حديثة النشأة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت ناديا سينمائيا كذلك..
وقع اختيار الفرقة المسرحية، وكنت ضمنها، على نص مسرحي بعنوان: “الدراويش يبحثون عن الحقيقة” لمصطفى الحلاج..
أجمل ما ميز هذا النشاط الثقافي المسرحي، أنه كان مؤطرا من مخرج لامع قلّ نظيره في الساحة الثقافية.. كان محمد الكاتي يتفجر حيوية، ويسعى إلى نشر أثر الفن المسرحي المتميز والهادف، كما تسعى اللقالق إلى بناء أعشاشها أينما حلت وارتحلت..
تكلفت بأداء دور من الأدوار الرئيسية في المسرحية، وهو دور “السجّان”. وكانت مهمتي أن أجسد قمة الجبروت، وأن استنطق “الدرويش”. الدرويش – وهو بالمناسبة تاجر صغير ـ وجد نفسه مقحما في اعتقال من طبيعة سياسية، بسبب تشابه اسمه مع اسم مناضل يساري، كان متابعا..
بقدر ما كنت منغمساً في تمثيل إطلاقية السلطة وتسيدها، بقدر ما كان الدرويش يعلن براءته، ويتمسك بها. في آخر المسرحية، وبعد فصول الاستنطاق والتعذيب، سيعلن الدرويش في المحكمة أمام القاضي، أنه ذاك الشخص بعينه، لأنه اقتنع بكل ما كان يُعذب من أجله، وكان يجهله، واستطاع أن يفتح نافذة الوعي السياسي، ويتنفس نسيم الحرية.. ولذلك صرّح للقاضي: نعم أنا هو الشخص الذي تبحثون عنه!!
كانت فصول التدريب شيقة ومفيدة، خاصة تنويع الصوت أثناء أداء الإيطاليات، ثم قرن الصوت بالحركة والانتقال في الركح..
كان المخرج محمد الكاتي رائعا، وهو يرخي بظلاله الفنية الوارفة على توقنا للانغماس اكثر في المسرح البريختي التعليمي..
انحسر الضوء على دوري في المسرحية، وتسلط علي ضوء الواقع، واستبدلت دور السجان في المسرحية بدور السجين في الواقع.. سجين لا زال في طور
الاختطاف، تنتظره فصول طويلة من الاستنطاق والتعذيب..
كنت أضحك بيني وبين نفسى، وأتساءل: هل استمر في الحلم، وسيكون مصيري الجنون!! أم اتشبت بما أعلنه فيلسوف الحياة الرواقي زینون: “ما يلائمك أيها العلم يلائمني ..”
لا شك أن نيتشه سيلقي علي باللوم، ويدعوني للتشبث بما لدي من اقتناع بمصيري لتجسيد مقولة “العود الأبدية”. ولا شك أن المسرح أقوى بكثير من الواقع، لأنني فزت فيه بمصل الاستمرار في الحياة، ورفضت لقاح الانهيار.
أنا: أنا.. وأنا لست أنا..
هل سأتمكن من إتقان دور السجين المختطف، وأنا معلق، وأزيد من أربعة أشباح تمارس مهمتها في الواقع، فيما سبق وأن أديته وتدربت عليه على خشبة المسرح؟! كانت الجراح والألم والضرب والسحل، والخنق “بالشيفون”، و “الطيارة” كلها كانت تشبه وقوفي على رأس “الدرويش”، وصراخي في وجهه:
– انت فلان!! أنت الذي حرض، وخطط، ونفذ فصول المؤامرة !!
أنت، أنت.. وأنا، أنا.. ألملم أطرافي بعد كل حصة من التعذيب، وأعيد ترتيب أوراق العنفوان..
أعود للتعذيب، وأعيد ترتيب غرائزي وأهيئها، لتجعلني أستقبل أكبر قدر من البطش.. تماما كما فعل الدرويش، وهو يواجهني ويعلن أمام القاضي: “أنا هو من تبحثون عنه”..

عزیز معیفی
مكناس 18 ماي 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى