“وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِه”
الميزان/ الرباط: بقلم/أ. عبده معروف

almizan.ma
“وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِه”
الميزان/ الرباط: بقلم/أ. عبده معروف
في مسرح الحياة، حيث يعلو صوت العطاء كأنشودةٍ تُبهج القلوب، يختار البعض أن يُغلق قلوبهم عن هذه الموسيقى العذبة، يُمسكون أيديهم عن الإنفاق، يُغلقون أبواب الرحمة، وكأنهم يخشون أن يتناقص الخير الذي لا ينقص إلا بمنعه؛ فالبخل، يابن التراب، ليس مجرد امتناعٍ عن بذل المال، بل هو حالةٌ من الجفاف الداخلي، إنه ذبولٌ يُصيب الروح، يُحيلها إلى أرضٍ بلا حياة، فلا ينبت فيها إلا أشواك الألم والضيق، أليس غريبًا أن يكون الإنسان هو المانع لنفسه من الخير، هو من يحرم قلبه من السكينة التي تجلبها يدٌ تمتد بالعطاء؟… إن العطاء كالنهر، يجري ليُحيي الأرض، ليُثمر الزرع ويُطهر الهواء، أما البخل، فهو كالصخرة الثقيلة التي تُغلق مجرى هذا النهر، فلا يعود عليها إلا بالجمود الذي يُثقل خطوات الحياة..
إن البخيل ليس فقط من يُمسك يده، بل من يُمسك قلبه عن الرحمة، من يرفض أن يكون سببًا في إشراقةٍ تنير وجوهًا غارقة في الظلام، وما أعجب عدل الله حين يجعل من البخل عاقبةً لصاحبه، إذ لا يعاني منه الناس فقط، بل يعاني منه البخيل نفسه، فيعيش حياةً تُثقلها الأعباء، ويظل قلبه قابعًا في دائرةٍ من الحرمان، لا يرى النور، ولا يشعر بحلاوة العطاء التي تنبض في القلوب الكريمة؛ قال الله: *”هَٰٓأَنتُمۡ هَٰٓؤُلَآءِ تُدۡعَوۡنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبۡخَلُۖ وَمَن يَبۡخَلۡ فَإِنَّمَا يَبۡخَلُ عَن نَّفۡسِهِۦۚ وَٱللَّهُ ٱلۡغَنِيُّ وَأَنتُمُ ٱلۡفُقَرَآءُۚ وَإِن تَتَوَلَّوۡاْ يَسۡتَبۡدِلۡ قَوۡمًا غَيۡرَكُمۡ ثُمَّ لَا يَكُونُوٓاْ أَمۡثَٰلَكُم(38)”* (سورة محَمَّد)، لكن، كم من أناسٍ جربوا أن يُعطوا، فوجدوا السعادة التي كانوا يظنون أنها في المال، وكم من أرواحٍ امتلأت بالرضا حين رأت أن الخير الذي أنفقوه يعود عليهم أضعافًا مضاعفة، بركةً في حياتهم، وسكينةً في قلوبهم، فيا أيها الإنسان، لا تخف من العطاء، اجعل يدك مفتوحة، دع الخير ينساب منها كما ينساب المطر ليُحيي الأرض العطشى، وافهم أن العطاء ليس خسارة، بل هو مكسبٌ لا يُقدر بثمن، مكسبٌ للروح أولًا، وللقلوب التي تلامسها ثانيًا؛ فالعطاء يُحرر الروح، يُعيد لها الحياة، يُنير الطريق الذي بدا مظلمًا، أما البخل، فهو قيدٌ يُثقل خطوات صاحبه، يُبقيه في ظلالٍ لا تُشرق فيها شمس، فلا تكن أسيرًا لهذا القيد، بل كن نورًا يُضيء لنفسك ولمن حولك..
*عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ((إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، أراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس؛ فمسحه فذهب عنه قذره وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل- أو قال: البقر شك الراوي- فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس؛ فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملا، وقال: بارك الله لك فيها؛ فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس؛ فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم، ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني اعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله!؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري؟ فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله- عز وجل-. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم. فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك)).* متفق عليه.