تأملات تربوية في قوله تعالى:
“وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ” (سورة الأعراف: 31)
الميزان/ الجديدة : الدكتور عبد الرحيم أشن
مقدمة:
الإسراف منن السلوكيات التي تمس جوهر التوازن الإنساني في الحياة.
وقد جاءت هذه الآية الكريمة في سياقٍ دقيقٍ يجمع بين العبادة والمأكل والمظهر والسلوك، لتعلن قاعدة ربانية خالدة: أن الجمال والتمتع بالطيبات لا ينافي الاعتدال، وأن الله سبحانه لا يحب المسرفين، لأن الإسراف انحراف عن ميزان الفطرة، ومظهر من مظاهر فساد الوعي والقلب والسلوك.
أولا: المعنى القرآني العميق للإسراف؛
1. التحليل اللغوي والمعنوي:
الإسراف في اللغة: مجاوزة الحدّ في كل أمر.
وفي الاصطلاح القرآني: تجاوز حدّ الاعتدال في المباح، أو استعمال النعمة في غير وجهها المشروع.
فالإسراف لا يقتصر على الطعام والشراب، بل يشمل الكلمة، الشعور، الوقت، المال، القوة، والنية.
2. السياق القرآني:
جاءت الآية بعد أمرٍ بالأكل من الطيبات والتجمل في المساجد، فقال تعالى: “كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا”؛ ليبيّن أن الإسلام دين توازنٍ لا حرمانٍ ولا انفلات؛ فالجمال المشروع محبوب، والاعتدال هو جوهر القرب من الله.
ثانيا: البعد التربوي في النهي عن الإسراف؛
1. ترسيخ قيمة التوازن:
الآية تُربي المسلم على أن يكون متزنًا في الرغبات والموارد والسلوكيات.
التربية القرآنية هنا تعلّمنا أن الكثرة ليست معيارًا للسعادة، وأن البركة قد تكون في القليل المتوازن لا في الكثير المسرف.
2. تعليم الوعي بالنعمة:
الإسراف غياب للوعي بالقيمة الحقيقية للنعم.
فمن أسرف في النعمة لم يشعر بمصدرها، ولم يؤدِّ شكرها، ومن شكر النعمة حفظها.
3. تربية الضمير الداخلي:
حين يتأمل المؤمن قوله تعالى: “إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ”؛ يشعر أن الإسراف ليس مجرد تصرف مادي، بل خيانة أمانة المحبة الإلهية.
فمن يريد محبة الله، عليه أن يبتعد عن الإسراف في كل شيء.
ثالثا: الأبعاد السلوكية والنفسية للإسراف؛
1. الإسراف اضطراب في التوازن النفسي:
غالبًا ما يكون وراء السلوك المسرف فراغ داخلي أو رغبة في التعويض.
فمن يسرف في الطعام، أو الترف، أو العلاقات، أو حتى في العطاء غير المنضبط، يحاول ملء فراغ نفسي أو عاطفي لم يُشبع بالحكمة.
2. الإسراف مؤشر على ضعف الوعي الذاتي:
الإنسان الواعي يعرف حدوده وحاجاته، ويضبط رغباته دون أن تُديره شهواته.
أما المسرف، فهو يعيش بلا بوصلة داخلية، يستجيب لكل إغراء، فيتحول من “مستخدِم للنعمة” إلى “عبدٍ لها”.
3. الإسراف سبب للقلق المادي والاجتماعي:
الإسراف في الاستهلاك أو المظاهر يُولّد الدَّين والقلق والمقارنة، ويُضعف الأمان النفسي، ويؤدي إلى تفكك اجتماعي بسبب غياب ثقافة الاقتصاد والاعتدال.
رابعا: تجليات الإسراف في حياتنا المعاصرة؛
1. إسراف غذائي: التبذير في الطعام والشراب رغم وجود الجياع.
2. إسراف استهلاكي: شراء ما لا نحتاجه بدافع التقليد أو المباهاة.
3. إسراف إعلامي: هدر الوقت والاهتمام في المحتويات الفارغة.
4. إسراف عاطفي: المبالغة في التعلق أو الكراهية أو العطاء غير المتزن.
5. إسراف روحي: إغراق النفس في الطقوس دون وعي بالمعنى والمقصد.
خامسا: منهج الإسلام في الوقاية من الإسراف؛
1. بناء وعي القناعة:
قال النبي ﷺ:
“ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس.”
القناعة ليست ضعفًا، بل فنّ إدارة الرغبة في ضوء الحكمة والرضا.
2. تعزيز ثقافة الشكر:
من شكر النعمة حفظها، ومن بطرها أضاعها.
الشكر اليومي يجعل الإنسان يرى النعمة بعين المسؤولية لا بعين الشهوة.
3. ترسيخ مبدأ الميزان:
قال تعالى:”وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى”..
“وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ”..
فكل خروج عن الميزان هو نوع من الإسراف في الفكر أو الفعل أو الشعور.
4. التربية على الاقتصاد والإنتاج:
الاقتصاد عبادة عقلية وروحية.
وقد قال عمر بن عبد العزيز:”ما أنفقتَ في غير حقٍّ فهو سرف، ولو كان قليلاً.”
سادسا: تأملات روحية في محبة الله وكره الإسراف؛
“إنه لا يحب المسرفين”؛
ليست جملة زجرية فقط، بل نداء حب إلهي يعلمنا أن من أراد أن يكون محبوبًا عند الله فليكن متزنًا.
فالمسرف لا يملك قلبًا حاكمًا لعقله، ولا روحًا مضبوطة باليقين.
والاعتدال في السلوك هو علامة النضج الروحي؛ لأن النفس المطمئنة لا تبالغ، ولا تنقص، بل تسير بسلام نحو الله.
المحور السابع: تطبيقات عملية واقعية؛
1. في الإنفاق:
ضع لنفسك ميزانية أسبوعية تلتزم بها، وتعيد تقييمها كل شهر.
2. في الأكل:
توقف قبل الشبع، وذكّر نفسك بأن البركة في الاعتدال.
3. في الوقت:
قسّم يومك بوعي؛ لا تسرف في اللهو ولا في العمل.
4. في المشاعر:
امنح بعقلك كما تمنح بقلبك، وتذكّر أن العطاء المتزن أطول عمرًا.
5. في العبادة:
التزم بالاستمرار لا بالكثرة المؤقتة، فالرسول ﷺ قال: “أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.”
خاتمة:
الإسراف ليس مجرد سلوك مادي، بل خلل في البصيرة وفقدان للميزان الإنساني.
والآية الكريمة تضع الإنسان أمام اختبار دائم بين ثقافة الامتلاك وثقافة الاكتفاء، بين منطق الكمّ ومنطق القيمة.
فمن أدرك أن الله لا يحب المسرفين، سعى لأن يكون من المعتدلين،
ومن استقام على التوازن، نال محبة الله وبركة الحياة.
د. عبد الرحيم أشن