الفقه والشريعةقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

تأملات في قوله تعالى: ” الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا”

الميزان/ الجديدة: الدكتور عبد الرحيم أشن

almizan.ma

تأملات في قوله تعالى: ” الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا” [الأحزاب: 39]
الميزان/ الجديدة: الدكتور عبد الرحيم أشن
مقدمة:
تمثل هذه الآية الكريمة ميثاقًا إلهيًا للمصلحين، ودستورًا ربانيًا للوعاظ والدعاة، ومنهجًا تربويًا عميقًا لكل من يحمل في قلبه هَمَّ البلاغ والحق والخير.
إنها ترسم ملامح الشخصية المؤمنة الأصيلة: التي تقوم بوظيفتها في الأرض بتبليغ رسالات الله، متحررة من الخوف البشري، خاضعة للخشية الإلهية وحدها.
وهذه الصفات ليست محصورة في الأنبياء، بل تمتد لكل من ورث عنهم طريق الدعوة والإصلاح والتربية.
أولًا: التفسير الإجمالي للآية
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ ﴾
أي: يؤدّون ما أمرهم الله بتبليغه من شرعه ووحيه وهداه، دون كتمان ولا تحريف.
﴿ وَيَخْشَوْنَهُ ﴾
أي: يخافونه خوفًا يحملهم على الطاعة، ويمنعهم من التقصير أو المساومة على الحق.
﴿ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ﴾
أي: لا يمنعهم رهبةُ المخلوقين من تبليغ ما أمروا به، لأن قلوبهم امتلأت بعظمة الله حتى زال عنها الخوف من سواه.
﴿ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾
أي: كافيًا في حفظهم، ورقيبًا على نياتهم وأعمالهم، ومجزيًا لهم بما يستحقون.
قال ابن كثير رحمه الله: «أي كافيًا مجازيًا لهم على ذلك، ومؤيدًا وناصرًا».
ثانيًا: المحور التربوي؛
1. التربية على الأمانة الرسالية:
الآية تُعلّم أن البلاغ وظيفة، لا ترفًا، وأن من بلّغ رسالة الله فهو مؤتمن على القلوب والعقول.
الأمانة هنا لا تقتصر على الوعظ، بل تشمل كل تبليغ للحق، في أي ميدان (تربية، علم، إعلام، إصلاح اجتماعي…).
2. تربية القلب على الخشية الصافية:
الخشية لله هي البوصلة التي تحفظ المربي / الواعظ من الانحراف عن النية أو الموقف.
إنها ليست خوفًا يُضعف، بل خشية تُقوّي، لأنها نابعة من معرفة الله وعظمته.
قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
3. الحرية الداخلية:
من يخشى الله وحده يتحرر من خوف الناس، ومن ضغط الجماعة، ومن رهبة المصلحة، فيصبح صادقًا، ثابتًا، مستقيمًا.
وهذا هو الاستقلال النفسي والإيماني الذي يُنشئ المصلحين.
ثالثًا: المحور النفسي
1. الآية تعالج الخوف الاجتماعي:
كثير من الناس يحجمون عن قول الحق خوفًا من النقد أو فقدان القبول.
هذه الآية تُحرر النفس من هذا القيد ببرمجة داخلية جديدة:
“أنا لا أُرضي الناس، بل أُرضي الله، والله هو حسبي.”
2. العلاقة بين الخشية والشجاعة:
كلما ازداد عمق الخشية من الله، زادت الجرأة في مواجهة الباطل.
فالخشية الحقيقية لا تولّد الرهبة، بل القوة النابعة من الإيمان.
3. الأمان النفسي الداخلي:
من يجعل الله حسبه، يشعر بالأمان حتى لو خذله الناس.
لأن الحسيب يعني: الكافي، الضامن، الراعي.
وهذا الشعور بالأمان هو أساس الصحة النفسية والاستقرار العاطفي للداعية والمربي.
رابعًا: المحور الروحي؛
1. الخشية عبادة قلبية عليا:
هي ثمرة المعرفة بالله، لا الخوف منه فحسب، بل الحياء من التقصير في حقه.
هي حالة من السكون المهيب أمام عظمة الله، تولّد طاعة من القلب قبل الجوارح.
2. الانقطاع لله وحده:
“ولا يخشون أحدًا إلا الله”؛ ليست مجرد وصف، بل مقام روحي من مقامات الإخلاص واليقين.
من وصل إليه، صار في حال من السكينة العجيبة، يبلّغ ولا يلتفت، يعطي ولا ينتظر، يعمل ولا يطلب جزاءً.
3. وكفى بالله حسيبًا:
مقام التوكل الكامل؛ أن تُسند كل حسابك لله: نيتك، سعيك، صبرك، تعبك.
فيطمئن القلب، ويُشفى من التوتر، لأن الله هو من يتولى حساب الأمور.
خامسًا: المحور العملي والتطبيقي؛
أ‌. في التربية والإصلاح:
علّم أبناءك وطلابك أن يقولوا الحق ولو خالف الناس.
درّبهم على “خشية الله لا خشية البشر” من خلال مواقف يومية.
اجعل “الله حسيبي” شعارًا يوميًا في مواجهة المواقف الصعبة.
ب‌. في الوعظ / الدعوة والإعلام:
لا تُخفِ الحق خشية هجومٍ أو نقدٍ، ولكن بلّغ برفقٍ وحكمة.
اعلم أن رسائل الله أمانة، وليست ملكًا لأحد.
اجعل نيتك دائمًا “البلاغ” لا “الانتصار”، “الهداية” لا “الجدل”.
ج‌. في الحياة اليومية:
قبل أي قرار، اسأل نفسك: “هل هذا يُرضي الله أم الناس؟”
ذكّر نفسك أن رضا الناس غاية لا تُدرك، لكن رضا الله أقرب وأبقى.
اجعل الآية وردًا تتأملها كلما شعرت بتردد أو خوف.
سادسًا: البعد القيمي والسلوكي؛
– القيمة المعنى التربوي الأثر السلوكي،
– الأمانة أداء الرسالة كما أنزلت الصدق والوضوح،
– الخشية مراقبة الله في السر والعلن الاتزان والانضباط،
– الحرية الداخلية التحرر من الخوف من الناس الشجاعة في الحق،
– التوكل كفى بالله حسيبًا الطمأنينة والثقة،
سابعًا: تطبيقات معاصرة؛
1. في البيئة التربوية:
غرس مفهوم “الله هو الرقيب” في نفوس الطلاب بدلاً من الاعتماد على المراقبة الخارجية.
2. في القيادة والإدارة:
المسؤول الذي يخشى الله لا يظلم، ولا يُحابِي، ولا يخاف في الحق لومة لائم.
3. في الإعلام والدعوة الرقمية:
على الداعية الإلكتروني أن يُبلّغ رسالة الله بصدق، دون تزييف أو خوف من ضغط الجماهير، مستحضرًا:
“ولا يخشون أحدًا إلا الله”.
ثامنًا: إشراقة ختامية:
من عاش هذه الآية صار عبدًا حرًّا، ومصلحًا شجاعًا، ومؤمنًا مطمئنًا.
فهو يبلّغ رسالات الله، ويخشاه دون سواه، ويوقن أن الله كفيل بحفظه وثوابه.
﴿ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾
كلمة تختصر فلسفة الحياة كلها:
أن تعمل لله، وتثق بالله، وتُفوّض الأمر لله، فيكفيك الله.
د. عبد الرحيم أشن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى