الفقه والشريعةقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

التأثير الاجتماعي للأقران على السلوك الأكاديمي والانفعالي لدى التلاميذ: دراسة تحليلية في ضوء النظريات الاجتماعية

الميزان / الدار البيضاء: محمد ازوين

almizan.ma

التأثير الاجتماعي للأقران على السلوك الأكاديمي والانفعالي لدى التلاميذ: دراسة تحليلية في ضوء النظريات الاجتماعية
الميزان / الدار البيضاء: محمد ازوين*
ملخص تنفيذي
يهدف هذا البحث إلى تحليل وتفكيك الآليات المعقدة التي يؤثر من خلالها الأصدقاء (الأقران) على سلوك التلميذ بمختلف أبعاده: الأكاديمي، والاجتماعي، والانفعالي، وحتى الأخلاقي. ينطلق المقال من فرضية أساسية مفادها أن جماعة الأقران تشكل نظامًا اجتماعيًا ديناميكيًا يتفاعل مع العوامل الفردية والبيئة الأسرية والمدرسية في تشكيل مسار نمو التلميذ. يستعرض البحث جملة من النظريات الاجتماعية والنفسية الراسخة، مثل نظرية التعلم الاجتماعي لألبرت باندورا، ونظرية الارتباط التفاضلي لإدوين سذرلاند، ونظرية الهوية الاجتماعية، لتقديم إطار نظري متين لفهم هذه الظاهرة. كما يتعمق في تحليل التأثيرات الإيجابية، كتعزيز الدافع التعليمي واكتساب المهارات الاجتماعية، والتأثيرات السلبية، مثل السلوكيات المنحرفة والتنمر والتقليد الأعمى. ويختتم البحث بوضع مجموعة من التوصيات الاستباقية والعلاجية موجهة لكل من المؤسسة التعليمية والأسرة، سعياً لتعظيم الجوانب الإيجابية لصداقات التلاميذ والتخفيف من حدة الجوانب السلبية، وذلك لضمان نمو متوازن وصحي للنشء.
جدول المحتويات
1. المقدمة: إطار البحث وأهميته
2. الإطار النظري: الأسس النفسية والاجتماعية لتأثير الأقران
· 2.1. نظرية التعلم الاجتماعي (ألبرت باندورا)
· 2.2. نظرية الارتباط التفاضلي (إدوين سذرلاند)
· 2.3. نظرية الهوية الاجتماعية (هنري تاجفيل)
· 2.4. مفهوم ضغط الأقران
3. مظاهر التأثير الإيجابي للأصدقاء على سلوك التلميذ
· 3.1. التأثير على الدافعية والإنجاز الأكاديمي
· 3.2. تطوير المهارات الاجتماعية والذكاء العاطفي
· 3.3. الدعم النفسي والانفعالي
· 3.4. تشكيل الهوية الشخصية والقيم الإيجابية
4. مظاهر التأثير السلبي للأصدقاء على سلوك التلميذ
· 4.1. السلوكيات المنحرفة والمخالفة للقوانين المدرسية
· 4.2. التراجع الأكاديمي وتراجع الدافعية للتعلم
· 4.3. انتشار السلوكيات الخطرة (التدخين، المخدرات، العنف)
· 4.4. التنمر والإيذاء النفسي والاجتماعي
· 4.5. أزمة الهوية والتقليد الأعمى (التبعية الاجتماعية)
5. العوامل الوسيطة في تحديد نوعية التأثير
· 5.1. العوامل الشخصية للتلميذ (الشخصية، تقدير الذات، المرونة النفسية)
· 5.2. العوامل الأسرية (نمط التربية، الرقابة، التواصل)
· 5.3. العوامل المدرسية (المناخ المدرسي، دور المعلم، الأنشطة)
· 5.4. طبيعة جماعة الأقران نفسها (تماسكها، قيمها، وضعها الاجتماعي)
6. الاستراتيجيات والتوصيات: نحو توظيف إيجابي لتأثير الأقران
· 6.1. دور المدرسة كمنظم للتفاعلات الاجتماعية
· 6.2. دور الأسرة في التأسيس والمراقبة والتوجيه
· 6.3. تمكين التلميذ فردياً (بناء الشخصية الواعية)
· 6.4. برامج التدخل الوقائي والعلاجي
7. الخاتمة: خلاصة واستنتاجات
8. قائمة المراجع
1. المقدمة: إطار البحث وأهميته
تشكل مرحلة الدراسة، وخاصة في سنيها الأولى والمراهقة، محطة حاسمة في تشكيل شخصية الفرد وسلوكه. وفي هذه المرحلة، تبدأ دائرة العلاقات الاجتماعية بالتوسع خارج النطاق الأسري الضيق، لتحتل جماعة الأقران – وهم الأفراد المتقاربون في العمر والخبرة – موقعاً مركزياً في حياة التلميذ. لم تعد العائلة المصدر الوحيد للتأثير والتوجيه، بل يبرز دور الأصدقاء كقوة فاعلة، وأحياناً طاغية، في صياغة الاتجاهات، والقيم، والسلوكيات.
تكمن أهمية دراسة تأثير الأصدقاء في كونه تأثيراً مزدوجاً، يحمل في طياته بذور النمو السليم وأيضاً بذور الانحراف. فمن ناحية، يمكن أن يكون الصديق داعماً أكاديمياً ونفسياً، وشريكاً في بناء هوية إيجابية. ومن ناحية أخرى، يمكن أن يكون قناة للسلوكيات الخطرة والضغوط السلبية التي قد تهدد المسار التعليمي والصحي والنفسي للتلميذ. لذا، فإن فهم الآليات التي يعمل من خلالها هذا التأثير ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة تربوية واجتماعية تمكن المعنيين – من آباء، ومعلمين، ومخططين تربويين – من استشراف آثاره والتدخل بشكل استباقي لتعزيز إيجابياته وتحجيم سلبياته.
يهدف هذا المقال إلى تقديم تحليل شامل وعميق لهذه الظاهرة، من خلال الرجوع إلى الإطار النظري الذي يؤسس لها، ثم تفصيل تجلياتها الإيجابية والسلبية على أرض الواقع، وصولاً إلى اقتراح حزمة من الحلول العملية القابلة للتطبيق. ويسعى البحث للإجابة على التساؤلات الرئيسية التالية: كيف تفسر النظريات الاجتماعية والنفسية تأثير الأقران؟ ما هي أبرز مظاهر التأثير الإيجابي والسلبي للأصدقاء على السلوك الأكاديمي والاجتماعي للتلميذ؟ وما العوامل التي تحدد اتجاه وقوة هذا التأثير؟ وأخيراً، ما الاستراتيجيات الكفيلة بتحويل علاقات الصداقة إلى رافد إيجابي في عملية التنشئة؟
2. الإطار النظري: الأسس النفسية والاجتماعية لتأثير الأقران
لفهم كيفية تأثير الأصدقاء، لا بد من الغوص في جذور هذه الظاهرة من خلال نظريات راسخة في علم النفس والاجتماع.
2.1. نظرية التعلم الاجتماعي (ألبرت باندورا) ترى هذه النظرية أن الإنسان لا يتعلم فقط من خلال التجربة المباشرة والمكافأة والعقاب(كما في نظرية الاشتراط الإجرائي)، بل يتعلم بشكل أساسي من خلال الملاحظة والتقليد. وفقاً لباندورا، فإن التلميذ يلاحظ سلوكيات أقرانه – وخاصة أولئك الذين يعتبرهم نماذج يُحتذى بهم (مثل الأكثر شعبية أو ثقةً بالنفس) – وينتبه إلى النتائج المترتبة على هذه السلوكيات. إذا لاحظ أن سلوكاً معيناً (مثل المشاركة الصفية النشطة) يؤدي إلى تعزيز إيجابي (استحسان المعلم، احترام الزملاء)، فإنه يطور توقعاً بأن نفس النتيجة ستحدث له إذا قام بذلك السلوك، مما يزيد من دافعيته لتقليده. والعكس صحيح، فإذا لاحظ أن سلوكاً عدوانياً يؤدي إلى اكتساب مكانة اجتماعية، قد يقلد هذا السلوك. هنا، يعمل الأصدقاء كمصدر رئيسي للنماذج السلوكية التي تتم ملاحظتها.
2.2. نظرية الارتباط التفاضلي (إدوين سذرلاند) تنطلق هذه النظرية من علم الإجرام ولكن تطبيقاتها أوسع في فهم السلوك المنحرف بشكل عام.تطرح النظرية أن الانحراف ليس موروثاً أو ناتجاً عن اضطراب فردي بحت، بل هو سلوك مُتعلَّم من خلال التواصل مع الآخرين في إطار مجموعات أولية مثل جماعة الأصدقاء. و”التفاضلي” يعني أن الفرد يتعرض لتعريفات متعارضة حول القانون (أو القاعدة): تعريفات مؤيدة للانحراف وتعريفات معارضة له. تتحدد اتجاهات الفرد وسلوكياته بناءً على كثافة ووتيرة ومدة اتصاله بتعريفات معينة. بمعنى آخر، إذا كانت التعريفات المؤيدة للانحراف (مثل “الغش ليس عيباً”، “الهروب من المدرسة مغامرة ممتعة”) التي يتلقاها التلميذ من أصدقائه تفوق وتطغى على التعريفات المعارضة من أسرته ومدرسته، فإن احتمالية انحرافه تزداد بشكل كبير.
2.3. نظرية الهوية الاجتماعية (هنري تاجفيل) تركز هذه النظرية على كيفية بناء الفرد لهويته من خلال انتمائه للجماعات.يسعى الإنسان بشكل طبيعي إلى تحقيق هوية اجتماعية إيجابية، وغالباً ما يفعل ذلك من خلال مقارنة جماعته (جماعة الداخل – الأصدقاء) بجماعات أخرى (جماعة الخارج – تلاميذ آخرون، المدرسة، الأسرة أحياناً). لتعزيز هذه الهوية، يتبنى الفرد قيم وسلوكيات ومعايير جماعته، ويبالغ في إيجابياتها وفي سلبيات الجماعات الأخرى. هذا يفسر لماذا قد يتبنى التلميذ سلوكيات غريبة عنه لمجرد تأكيد انتمائه لجماعة أقرانه والحفاظ على مكانته داخلها، حتى لو كانت هذه السلوكيات متنافية مع قيمه الشخصية التي تربى عليها.
2.4. مفهوم ضغط الأقران ضغط الأقران هو القوة الاجتماعية التي تمارسها جماعة الرفاق على الفرد لتتوافق مع معاييرها وسلوكياتها واتجاهاتها.وهو ليس دائماً سلبياً، فقد يكون ضغطاً إيجابياً نحو الدراسة أو ممارسة الرياضة. يمكن تقسيمه إلى:
· ضغط الأقران المباشر (الصريح): حيث يتم التعبير عن الضغط بشكل واضح، كالطلب المباشر من الأصدقاء للقيام بفعل ما، أو السخرية والاستهزاء في حالة الرفض.
· ضغط الأقران غير المباشر (الضمني): وهو الأكثر شيوعاً وخطورة، حيث يشعر التلميذ بضغط للتطابق مع الجماعة دون طلب صريح، خوفاً من الاستبعاد أو الرغبة في القبول والانتماء. هنا، يبدأ الفرد بمراقبة سلوك الجماعة وتعديل سلوكه تلقائياً ليصبح متشابهاً.
3. مظاهر التأثير الإيجابي للأصدقاء على سلوك التلميذ
عندما تكون بيئة الأقران إيجابية وداعمة، يمكن أن تكون بمثابة رافد حيوي لنمو التلميذ.
3.1. التأثير على الدافعية والإنجاز الأكاديمي يميل التلاميذ إلى محاكاة أقرانهم في بيئتهم التعليمية.في الفصول الدراسية التي تسودها ثقافة التنافس الإيجابي والاهتمام بالتحصيل العلمي، ينتشر تأثير “العدوى الاجتماعية” الإيجابية. عندما يرى التلميذ أصدقاءه مجتهدين، منظمين، ومهتمين بالدراسة، فإن ذلك يرفع من توقعاته لنفسه ويشحذ همته. يمكن أن تتحول مجموعات المذاكرة بين الأصدقاء إلى بيئة خصبة لتبادل المعرفة، وشرح المفاهيم الصعبة، وتحفيز بعضهم البعض على الاستذكار. كما أن النجاح الأكاديمي للصديق يمكن أن يكون مصدر إلهام، حيث يدرك التلميذ أن النجاح أمر ممكن التحقيق.
3.2. تطوير المهارات الاجتماعية والذكاء العاطفي تمثل علاقات الصداقة مختبراًطبيعياً لاكتساب وتطوير المهارات الاجتماعية الأساسية. من خلال التفاعل مع الأصدقاء، يتعلم التلميذ فنون الحوار، والإصغاء، والتفاوض، وحل النزاعات، والتعاطف، والتعاون. هذه التفاعلات تعلمه كيفية فهم مشاعر الآخرين وقراءة الإشارات الاجتماعية غير اللفظية، مما يعزز ذكاءه العاطفي. كما تساعده على تجاوز النرجسية الطبيعية في الطفولة نحو إدراك وجهات نظر الآخرين المختلفة (تبني منظور الآخر).
3.3. الدعم النفسي والانفعالي يمر التلميذ بالعديد من الضغوط والتحديات،سواءً كانت أكاديمية (الامتحانات)، أو أسرية، أو شخصية. في مثل هذه الأوقات، يمثل الأصدقاء شبكة أمان عاطفية فريدة. يكون الصديق ملاذاً آمناً يجد فيه التلميذ الأذن المصغية، والتفهم، والدعم العاطفي الذي قد لا يجده في مكان آخر. هذا الدعم يخفف من حدة التوتر والقلق، ويقلل من الشعور بالوحدة، ويعزز من الصحة النفسية العامة، مما ينعكس إيجاباً على تركيزه وتحصيله الدراسي.
3.4. تشكيل الهوية الشخصية والقيم الإيجابية من خلال علاقاته بأقرانه،يختبر التلميذ أدواراً اجتماعية مختلفة، ويتعرف على اهتمامات وقيم متنوعة. هذه العملية التفاعلية تساعد في بلورة هويته الشخصية المستقلة. في بيئة صحية، يشجع الأصدقاء بعضهم البعض على تبني قيم إيجابية مثل الصدق، والإخلاص، والمسؤولية، والاحترام، والعمل التطوعي. يمكن أن تكون جماعة الأقران قوة دافعة نحو السلوك الأخلاقي والمجتمعي الإيجابي.
4. مظاهر التأثير السلبي للأصدقاء على سلوك التلميذ
للأسف، عندما تكون قيم جماعة الأقران سلبية أو منحرفة، يصبح تأثيرها مدمراً على عدة مستويات.
4.1. السلوكيات المنحرفة والمخالفة للقوانين المدرسية وفقاًلنظرية الارتباط التفاضلي، تنتشر السلوكيات المنحرفة مثل الغش، والتوقيف عن الدراسة (الهروب)، وتدمير الممتلكات العامة، وعدم احترام المعلمين، من خلال تعلمها وتبريرها داخل جماعة الأصدقاء. يقدم الأقران “تفسيرات” و”مبررات” لهذه السلوكيات تجعلها مقبولة في أعين التلميذ، مما يضعف من وازعه الأخلاقي الداخلي ويجعله أكثر انسياقاً وراء الجماعة.
4.2. التراجع الأكاديمي وتراجع الدافعية للتعلم إذا سادت بين الأصدقاء ثقافة اللامبالاة بالدراسة،والسخرية من المتفوقين (ظاهرة “عداء النجاح” أحياناً)، والتهرب من الواجبات، فإن التلميذ – خاصة ضعيف الشخصية أو المنخفض تقدير الذات – سيجد نفسه مجبراً على تبني هذه الثقافة لكي لا يُنبذ. يؤدي هذا إلى تراجع مستواه الدراسي، وفقدانه الحماس للتعلم، وربط المدرسة بتجارب سلبية تتمثل في الضغط الاجتماعي للتقاعس.
4.3. انتشار السلوكيات الخطرة (التدخين، المخدرات، العنف) تعد السلوكيات الخطرة من أخطر مظاهر التأثير السلبي.غالباً ما يبدأ التلميذ في تجربة التدخين أو تعاطي المواد المخدرة أو الكحول تحت ضغط مباشر أو غير مباشر من الأصدقاء، كطقوس للانتماء أو لإثبات “الرجولة” أو “النضج”. نفس الأمر ينطبق على السلوكيات العنيفة والعدوانية، حيث يتم تشجيع العنف كوسيلة لحل المشكلات أو لفرض الهيمنة، مما يعرض التلميذ لمخاطر قانونية ونفسية جسيمة.
4.4. التنمر والإيذاء النفسي والاجتماعي يمكن أن تتحول جماعة الأصدقاء إلى أداة للإيذاء عندما تتحول إلى”عصبة” تقوم بممارسة التنمر على أقران آخرين. قد يشارك التلميذ في أعمال التنمر – سواء كان متنمراً أو مساعداً للمتنمر أو متفرجاً سلبيًا – خوفاً من أن يصبح هو نفسه ضحية إذا ما اعترض. هذا يخلق بيئة مدرسية سامة ومخيفة، ويسبب أضراراً نفسية عميقة للضحية وللمشاركين على حد سواء.
4.5. أزمة الهوية والتقليد الأعمى (التبعية الاجتماعية) عندما يكون ضغط الأقران قوياًجداً، قد يتخلى التلميذ عن فرديته وآرائه وقيمه الشخصية لصالح الرأي الجماعي. يؤدي هذا إلى ما يعرف بـ “أزمة الهوية”، حيث يفقد التلميذ القدرة على التمييز بين ما يريده هو حقاً وما تريده له الجماعة. تظهر هذه التبعية في تقليد أعمى في الملبس، والمصطلحات اللغوية، والاهتمامات، والآراء، مما يقتل الإبداع والتفكير النقدي المستقل.
5. العوامل الوسيطة في تحديد نوعية التأثير
لا يتأثر جميع التلاميذ بنفس الدرجة أو بنفس الطريقة. هناك عوامل وسيطة تحدد مدى قابليتهم للتأثر بضغط الأقران واتجاه هذا التأثير.
5.1. العوامل الشخصية للتلميذ
· الشخصية: يتمتع التلميذ الواثق من نفسه، القادر على اتخاذ القرارات، والمتمتع بقدر عال من الاستقلالية، بحصانة أكبر ضد الضغوط السلبية مقارنة بزميله غير الآمن، والتواق للقبول، وضعيف الشخصية.
· تقدير الذات: كلما انخفض تقدير الذات لدى التلميذ، زادت حاجته للانتماء والاعتراف من قبل الآخرين، مما يجعله أكثر عرضة للانسياق وراء سلوكيات الجماعة – حتى السلبية منها – لتعويض هذا النقص.
· المرونة النفسية: قدرة التلميذ على التكيف مع المواقف الصعبة ومواجهة الإحباطات تمكنه من قول “لا” للضغوط السلبية والخروج من العلاقات المؤذية.
5.2. العوامل الأسرية
· نمط التربية: الأسر التي تتبع أسلوب التربية الديمقراطي – المتوازن بين الحزم والحنان – والتي تشجع على الحوار والاستقلالية، تنتج أطفالاً أكثر قدرة على مقاومة الضغوط السلبية. في المقابل، فإن الأسلوب الاستبدادي أو المتساهل جداً يزيد من قابلية التلميذ للتأثر بآراء الآخرين.
· الرقابة والتواصل: وجود رقابة أسرية واعية – ليست خنقاً بل متابعة – مع قنوات اتصال مفتوحة وحوار دافئ بين الأبناء والآباء، يوفر للتلميذ شبكة أمان يلجأ إليها ويستشيرها عند تعرضه لضغوط، مما يقلل من اعتماده الكلي على أقرانه في تكوين آرائه.
5.3. العوامل المدرسية
· المناخ المدرسي: المدرسة التي تعزز قيماً مثل التعاون، والاحترام، والشفافية، وتكافؤ الفرص، وتخلق بيئة آمنة نفسياً، تقلل من حدة الضغوط السلبية بين الأقران.
· دور المعلم: المعلم الملتزم، العادل، والذي يمتلك مهارات التواصل الفعال، يمكن أن يصبح نموذجاً إيجابياً بديلاً ويخلق ديناميكية إيجابية داخل الصف تحصن التلاميذ ضد التأثيرات السلبية.
· الأنشطة اللاصفية: توفر هذه الأنشطة فرصة لبناء صداقات جديدة على أسس صحية (الاهتمامات المشتركة، الهوايات)، مما يوسع دائرة علاقات التلميذ ويقلل من اعتمادية على جماعة واحدة قد تكون سلبية.
5.4. طبيعة جماعة الأقران نفسها قوة التأثير ترتبط بتماسك الجماعة،ووضوح معاييرها، ومكانتها الاجتماعية. الجماعات المتماسكة ذات القيادة الواضحة والقيم المحددة (سواء كانت إيجابية أو سلبية) يكون تأثيرها أقوى من الجماعات الفضفاضة.
6. الاستراتيجيات والتوصيات: نحو توظيف إيجابي لتأثير الأقران
بناءً على التحليل السابق، يمكن طرح مجموعة من التوصيات:
6.1. دور المدرسة كمنظم للتفاعلات الاجتماعية
· تفعيل برامج التوجيه والإرشاد الطلابي: تصميم برامج وقائية توعوية تناقش مواضيع مثل ضغط الأقران، ومهارات الرفض، وبناء الشخصية، وتكون مدمجة في المنهج الدراسي.
· خلق بيئة تعليمية تعاونية: الاعتماد على استراتيجيات التعلم التعاوني التي تجعل التلاميذ يعملون معاً لتحقيق هدف مشترك، مما يعزز القيم الإيجابية ويقلل من التنافس السلبي.
· تدريب المعلمين: تدريب المعلمين على اكتشاف ديناميكيات الجماعات داخل الفصل، والتعرف على علامات الضغط السلبي والتنمر، والتدخل بأساليب تربوية فعالة.
· تشجيع الأنشطة والجماعات المدرسية: إنشاء نادي للقراء، فريق للرياضة، مجموعة للمسرح، إلخ. لجذب التلاميذ نحو جماعات إيجابية تعزز هويات بديلة عن الهويات المنحرفة.
6.2. دور الأسرة في التأسيس والمراقبة والتوجيه
· بناء علاقة قائمة على الثقة والاحترام: منذ الصغر، يجب أن يعمل الوالدان على بناء جسر من الثقة مع أبنائهم، بحيث يشعر الابن بالحرية في مشاركة همومه ومشاكله دون خوف من الحكم المسبق أو العقاب القاسي.
· المعرفة بأصدقاء الابن: من المهم أن يعرف الآباء أصدقاء أبنائهم، ويشجعون على عقد لقاءات في البيت لمراقبة طبيعة هذه العلاقات بشكل غير مباشر.
· توفير التوجيه المستمر وليس الأوامر: بدلاً من منع الابن من صداقة شخص معين بشكل قاطع (ما قد يدفعه للتمرد)، ينبغي مناقشته في صفات الصديق الإيجابية والسلبية، وتشجيعه على التفكير النقدي في اختياراته.
· تعزيز المناعة الداخلية: غرس القيم والأخلاق والمبادئ الراسخة في الابن منذ الطفولة، مما يمنحه بوصلة داخلية يستطيع من خلالها تمييز الصحيح من الخطأ.
6.3. تمكين التلميذ فردياً (بناء الشخصية الواعية)
· تنمية مهارات اتخاذ القرار: تعليم التلميذ كيفية تحليل الخيارات، ووزن الإيجابيات والسلبيات، واتخاذ القرارات المسؤولة.
· تعليم مهارات الرفض والتفاوض: تمكين التلميذ من قول “لا” بثقة وحزم عند تعرضه لضغوط تتعارض مع قيمه، مع تقديم بدائل أو تبريرات مقنعة.
· تعزيز تقدير الذات: من خلال التشجيع، والثناء على الجهود وليس النتائج فقط، وإتاحة الفرص له ليجرب وينجح ويعتمد على نفسه.
6.4. برامج التدخل الوقائي والعلاجي
· برامج إشراك القادة الإيجابيين: تحديد التلاميذ ذوي النفوذ الإيجابي داخل المدرسة وتدريبهم ليكونوا “مرشدين أقران” لنشر التأثير الإيجابي بين زملائهم.
· برامج خاصة للتلاميذ الأكثر عرضة للخطر: تقديم دعم مكثف للتلاميذ المنعزلين، أو ذوي التحصيل المتدني، أو المنحدرين من أسر مفككة، والذين هم أكثر عرضة للانجرار وراء الجماعات السلبية بحثاً عن الانتماء.
7. الخاتمة: خلاصة واستنتاجات
تؤكد هذه الدراسة على الحقيقة الجوهرية التي مفادها أن تأثير الأصدقاء على سلوك التلميذ هو حقيقة لا يمكن إنكارها أو تغييبها، بل هي حقيقة معقدة ومتعددة الأوجه. إنه سيف ذو حدين؛ يمكن أن يكون أقوى حليف في دعم النمو السليم والشامل للتلميذ، ويمكن أن يكون أقوى عدو يعرقل هذا النمو ويهدد مستقبله.
لقد بين الإطار النظري أن هذا التأثير ليس وليد الصدفة، بل هو عملية اجتماعية نفسية معقدة تخضع لنظريات التعلم والهوية والضغط الاجتماعي. وتظهر الممارسة أن هذا التأثير يتغلغل في كل جوانب حياة التلميذ: من تحصيله العلمي إلى صحته النفسية، من قيمه الأخلاقية إلى هويته الشخصية.
لا يكمن الحل في عزل التلميذ عن أقرانه – فهذا مستحيل وغير مرغوب فيه – بل في إدارة هذا التأثير وتوجيهه. هذه المسؤولية هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق المدرسة التي يجب أن تتحول إلى فضاء منظم للتفاعلات الإيجابية، والأسرة التي تظل حجر الزاوية في التأسيس والمراقبة والتوجيه، وأخيراً وليس آخراً، التلميذ نفسه الذي يجب تمكينه ليصبح فرداً مستقلاً، واعياً، قادراً على الاختيار الصحيح، ومقاوماً للضغوط السلبية. فقط من خلال هذا النهج التكاملي يمكن تحويل قوة الأقران من تهديد محتمل إلى فرصة ذهبية لتربية جيل متوازن، منتج، ومسؤول.
* كوتش ومدرب التنمية الذاتية
مختص في التطوير الذاتي معتمد دولياً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى