الفقه والشريعةكتاب الراى

تربية الأبناء في الإسلام

عزيزة المزروعي طالبة بسلك الدكتوراه

almizan.ma

الحرص على عقيدة الأبناء

حددت الشريعة الإسلامية أصول الزواج ومقاصده ورتبت الآثار على المقدمات، وذلك لتدوم العشرة على أساس سليم، ولتقوم الأسرة على منهاج يحفظها من التصدع والتشتت والانهيار. لأنه من تكرار الأسر يتكون المجتمع بمعنى أن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناءه، فإذا كان الأساس الذي بنيت عليه قويا سليما، ساعد ذلك على تماسك البناء وصلاحيته للبقاء.

من هنا تبدو لنا أهمية اختيار الزوجين في بناء الأسرة. وأنها تمتد لتؤثر في تربية النشء على الأصول الإسلامية من الاعتقاد، السلوك، السمات والأخلاق. وكان أهم أساس يقوم عليه اختيار الزوجين هو الدين والخلق، قال رسول الله ﷺ:”إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض.”(1) ويدل هذا الحديث على أن الدين والخلق من أهم أسباب النجاة من الفتن، وأن دونهما ليس إلا الهلاك. ويقول رسول الله ﷺ :” تنكح المرأة لأربع لمالها وحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك”(2) فالدين هو الصرح الشديد الذي يبنى عليه بيت الزوجية.

لذا فإن واجب الآباء اتجاه أبناءهم اختيار الصالح من الناس لهم، لتحقيق الهدف المرجو من الزواج وهو إعداد الجيل الصالح المسؤول. فأخلاق الآباء تنعكس لامحالة على الأبناء. قال الإمام ابن حجر رحمه الله في قوله ﷺ:”فعليك بذات الدين” والمعنى أن اللائق أن يكون الدين مطمح نظرة في كل شيء، لاسيما لمن تطول صحبته فأمر النبي ﷺ بتحصيل صاحبة الدين الذي هو غاية البغية.(3)

إن الولد بين يدي والده أمانة كبيرة ومسؤولية عظيمة، وجب عليه شرعا أن يرعاها حق رعايتها. وفي الحديث عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: “كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته،و الرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها.”(4) والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه، فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه. والرعية كل من شمله حفظ الراعي ونظره. (والرجل راع على أهل بيته ومسؤول عن رعيته) هل وفاهم حقهم؟ من نفقة وكسوة وحسن عشرة. (والمرأة راعية في بيت زوجها) قال الخطابي: ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك. وقال الطيبي في هذا الحديث: إن الراعي ليس مطلوبا لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فينبغي أن لايتصرف إلا بما أذن الشارع فيه.(5). والقرآن يبين بأن الوالد مسؤول عن رعاية ولده ماديا ومعنويا وبتوفير أسباب الأمن والاطمئنان له، وبنصحه وإرشاده، ومن بين الأمثلة لقمان في وصيته لابنه، قال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}لقمان13.إن أهم ما يجب على الآياء اتجاه أبناءهم هو تعليمهم العقيدة الصحيحة لأن بها نجاتهم في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تنتج البهيمة، هل ترى فيها من جدعاء.” (6)قال ابن حجر رحمه الله: أن المراد من التركيب أن الكفر ليس من ذواب المولود ومقتضى طبعه، بل إنما بسبب خارجي، فإن سلم من ذلك السبب استمر على الحق.”(7)إن أول مابدأ به لقمان موعظته لابنه أن نهاه عن الشرك، وذلك لأن صلاح الاعتقاد أصل صلاح العمل. قال الطاهربن عاشور رحمه الله: عطف على جملة{ءاتينا لقمان الحكمة} والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه. فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي الحكمة، فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة، وقد جمع لقمان في هذه الموعظة أصول الشريعة وهي الاعتقادات، والأعمال والمعاملة وأدب النفس. وجملة {إن الشرك لظلم عظيم} تعليل للنهي عنه، وتهويل لأمره، فإنه ظلم لحقوق الخالق، وظلم المرء لنفسه، إذ يضع نفسه في حضيض العبودية لأخس الجمادات، وظلم لأحل الإيمان الحق إذ يبعث على اضطهادهم وأذاهم، وظلم لحقائق الأشياء بقلبها وإفساد تعليقها.(8) و يقص  كذلك القرآن أن الأنبياء صلوات الله عليهم لم يملوا من توصية أبناءهم بكلمة التوحيد، حتى لما حضرتهم الوفاة، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}أي: وصى بهذه الملة، وهي الإسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله تعالى:{أسلمت لرب العالمين}  لحرصهم عليها ومحبتهم لها، حافظوا عليها حين الوفاة. بحيث إلى حين حضرت يعقوب الوفاة لازال يوصيهم بعبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: { أمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}البقرة:َ133.(9) قال ابن السعدي: فأجابوا بما قرت به عينه…فجمعوا بين التوحيد والعمل.(10) بل إن الولد السوي يجد نفسه مسؤولا عن ابنه حتى عند اختلاف الاتجاه والاعتقاد، فهو يحرص على هدايته وتجنيبه عوامل الضلال والخسران ما استطاع، قال تعالى: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ }الأحقاف:16.وهذا نوح عليه السلام يرى نفسه مسؤولا عن توجيه ابنه المخالف له في المعتقد، فيقول تعالى عنه: {وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ ۚ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ۚ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)} والأنبياء عليهم مع دعوتهم لأبناءهم كانوا يلتجئون ويتضرعون إلى الله بالدعاء فهو مالك القلوب ومقلبها، ولنا فيهم الأسوة الحسنة والقدوة الصالحون.قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)} قال الإمام القرطبي: فالواجب على الإنسان أن يتضرع إلى خالقه في هداية ولده، وزوجه بالتوفيق لهما، والهداية والصلاح والعفاف والرعاية، وأن يكونا معينين له دينه ودنياه، حتى تعظم منفعته بهما في أولاه وأخراه، ألا ترى قول زكريا:{واجعله ربي رضيا} وقوله:{ذرية طيبة}وقال: {هب لنا أزواجنا وذرياتنا قرة أعين} ودعا رسول الله لأنس فقال ﷺ:”اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه.”(11) وما كان هذا الاهتمام الشديد إلا مخافة الوعيد الشديد لمن شذ عن الدين واتبع غير الإسلام دينا. فالإنسان بطبعه يحب لأولاده ما يحب أن يكون فيه النعيم، بل إن الإنسان الوحيد الذي تتكنى أن يكون أحسن منك مكانة هو ولدك. وهمُّ الصالحين ليس هو الفلاح في الدنيا فحسب، بل النجاة من النار يوم القيامة. قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)} التحريم:6.قال سفيان الثوري عن منصور عن علي رضي الله عنه: أدبوهم وعلموهم، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: اعملوا بطاعة الله واتقوا معاصي الله، وامروا أهليكم بالذكر، ينجيكم من الله. وقال مجاهد: اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله. وقال قتادة: تأمرهم بطاعة وتنهاهم عن معصية الله وأن تقوم عليهم بأمر الله، وتأمرهم به وتساعدهم عليه فإذا رأيت معصية رددتهم وزجرتهم عنها.(12)

خلق الصبي بجوهره قابلا للخير والشر جميعا، وهو أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، فإن عود على الخير وعلمه ونشأ عليه، سعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه، وكان معلما له ومؤدبا. وإن عود الشر أهمل إهمال البهائم، وشقي وهلك وكان الوز في رقبة القيِّم عليه، والولي له. ومهما صان الأدب والأخلاق عن نار الدنيا، فبأن يصونه عن الآخرة أولى، وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من قرناء السوء.(13)

1-أخرجه الترمذي كتاب النكاح.باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه. قال الألباني حسن صحيح. حديث رقم1084.

2-البخاري.كتاب النكاح.باب الأكفاء في الدين. حديث رقم5088.

3-فتح الباري9/38.

4-البخاري. كتاب الاستقراض/باب العبد راع في مال سيده ولا يعمل إلا بإذنه. حديث رقم2409.

(5)تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي لمحمد بن عبد الرحمن المباركفوري.5/361.

6-البخاري. كتاب الجنائز/باب ماقيل في أولاد المشركين. حديث رقم1385.

7-فتح الباري.3/289.

8-التحرير والتنوير.1/244.

9-تفسير القرآن العظيم.1/244.

10-تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.ص55.

11-أخرجه مسلم.كتاب فضائل الصحابة/باب فضائل أنس بن مالك رضي الله عنه. وهو راوي الحديث. رقم 2481.

12-تفسير القرآن العظيم.4/501.

13-إحياء علوم الدين.كتاب رياضة الصبيان. 3/130

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى