
almizan.ma
الحكمة الثامنة :
( إذا فَتَحَ لَكَ وِجْهَةً مِنَ التَّعَرُّفِ فَلا تُبْالِ مَعَها إنْ قَلَّ عَمَلُكَ. فإِنّهُ ما فَتَحَها لَكَ إلا وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِليْكَ؛ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ التَّعَرُّفَ هُوَ مُوْرِدُهُ عَلَيْكَ والأَعْمالَ أَنْتَ مُهديها إلَيهِ. وَأَينَ ما تُهْديهَ إلَيهَ مِمَّا هُوُ مُوِرُدهُ عَلَيْكَ؟ )
تعريفات:
فتح: هيأ ويسر والغالب استعماله في الخير.
الوجهة: الجهة والباب والمدخل. والمراد هنا سياط القدر التي توجب للعبد معرفة بضعفه وفقره وذله الى سيده، و أن الخلق لا يملكون له نفعا ولا ضرا، ولا موتا و لا حياة مع قهر سلطان مولاه (وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون).
التعرف: طلب المعرفة تقول تعرف لي فلان إذا طلب مني معرفته. والمعرفة هي تمكن حقيقة العلم بالمعروف من القلب حتى لا يمكن الانفكاك عنه بحال. والمقصود أن الله سبحانه يتعرف الى عبده بما يسوقه إليه من المقادير، فمتى أعطاه أشهده بره فيعرف العبد صفات جمال ربه، ومتى منعه أشهده قهره فيعرف العبد صفات جلال سيده.
المبالاة: التهمم بفوات الشيء.
أوردَ: يُورد، إيرادًا، فهو مُورِد، والمفعول مُورَد. أَوْرَدَ الشيءَ: أَحضره.
الدنيا دار بلاء وامتحان. فالعبد غير متروك هملا بل ممتحن من ربه بالمسرات تارة بما تقتضيه صفات الكمال والجمال وبالمكاره تارة بما تقتضيه صفات الجلال والجبروت. فالعارف بالله مقيم لعبادة الوقت بما اقتضاه صدق معرفته بنفسه وبصفات ربه (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). محضرا رشده ناظرا إلى ناصيته بيد خالقه يخفضها ويرفعها كيف يشاء، وإلى قلبه بيده سبحانه، وفي قبضته ، يقلبه كيف يشاء. فلا يرى لنفسه مع ربه إرادة ومشيئة وتدبيرا مفوضا أمره كله إلى مالك القلوب والنواصي فيصير بذلك عبدا لربه تقلبه يد القدرة.
فيا أيها السالك (إذا فَتَحَ لَكَ – ربك- وِجْهَةً مِنَ التَّعَرُّفِ) فإن كانت وجهة أمر شرعي فجد واجتهد واسع واستفرغ الفكر والعمل في عبودية مولاك بظاهرك وباطنك، ناظرا بقلبك إلى مولاك مستعينا به في أن يوفقك لمحابه ومراضيه، عينك في كل لحظة شاخصة إلى الحق المتوجه عليك لربك لتؤديه في وقته على أكمل أحواله. أما إن تعرف إليك بصفات القهر والجبروت بغير اختيارك فمقابلتها بمقتضاها من العبودية على مراتب ثلاثة: أدناها مقابلتها بالصبر دون النزول عنها إلى نقصان الإيمان وفواته بالتسخط والتشكي واستبطاء الفرج اليأس والجزع الذي لا يفيد إلا فوات الأجر وتضاعف المصيبة.
المرتبة الثانية: الرضا عنه في تلك الوجهة والشوق إليه ومشاهدة لطفه فيها وبره وإحسانه العاجل والآجل.
المرتبة الثالثة: شكره عليها مثل شكره على مختلف النعم.
ولكَ من ذلك مشاهد أخر لا تسعها العبارة وهي فتح من الله عليك لا يبلغه علمكَ ولا عملكَ (فَلا تُبْالِ مَعَها إنْ قَلَّ عَمَلُكَ. فإِنّهُ ما فَتَحَها لَكَ إلا وَهُوَ يُريدُ أَنْ يَتَعَرَّفَ إِليْكَ؛).
ففى كتاب “الزهد” للإمام أحمد: “أن رجلا من بني إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة، فلم يظفر بها، فقال في نفسه: ولله لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك، فؤتي في منامه، فقيل له: أرأيت إزراءك على نفسك تلك الساعة؟ فإنه خير من عبادتك تلك السنين.
وأنه سلك بك مسلكا، من غير اكتساب منك. والأعمال لا تسلم من دخول الآفات والمطالبة بوجود الإخلاص فيها، وقد لا يحصل لك ما تأمله من الثواب لعدم إحاطتك باستيفاء الشروط وارتفاع كل الموانع، وأين أحدهما (ما تُهْديهَ إلَيهَ) من الآخر (مِمَّا هُوُ مُوِرُدهُ عَلَيْكَ).