الفقه والشريعةكتاب الراىمنوعات

تيسير الحكم العطائية 13

الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور لرزق

almizan.ma

الحكمة الثالثة عشرة
(كَيْفَ يُشْرِقُ قَلْبٌ صُوَرُ الأَكْوَانِ مُنْطَبِعَةٌ في مِرْآَتِهِ ؟
أَمْ كَيْفَ يَرْحَلُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُكَبَّلٌ بِشَهَوَاتِهِ؟
أَمْ كَيْفَ يَطْمَعُ أَنْ يَدْخُلَ حَضْرَةَ اللهِ وَهُوَ لَمْ يَتَطَهَّرْ مِنْ جَنَابَةِ غَفَلاَتِهِ؟
أَمْ كَيْفَ يَرْجُو أَنْ يَفْهَمَ دَقَائِقَ الأَسْرَارِ وَهُوَ لَمْ يَتُبْ مِنْ هَفَوَاتِهِ؟) .
تعريفات:
القلب: القوة القابلة للمفهومات. وملتقى العواطف الدافعة والرادعة والممجدة. ولا يعنينا هنا ما يصطلح عليه الأطباء: عُضوٌ عَضَلِيٌّ أَجوفُ، جاثم وراء الرئة اليسرى، يستقبل الدَّمَ من الأَوردة ويدفعه في الشرايين.
أكوان: (اسم) جمع كَون. وهو الوجود المطلق العام‏ المفتقر إلى موجد (أي خالق).
مُنْطَبِعَةٌ: انطبعَ: مُطاوع طبَعَ / انطبعَ بـ / انطبعَ في يَنطبِع، انطِباعًا، فهو مُنطبِع، والمفعول مُنطبَع به. انطبعت الفكرةُ في ذهنه: ترسّخت وثبتت. انطبع الكتابُ: ظهر بصورة ما. تَطَبَّعَ الكَأْسُ بِالْمَاءِ: اِمْتَلأَ وَفَاضَ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ.
مُكَبَّلٌ: كَبَّلَ، يُكَبِّلُ، مصدر تَكْبِيلٌ: حال دون حرِّيّة التصرُّف أو الحركة. الكَبْلُ: القَيد من أي شيءٍ كان.
شهوة: (اسم) والجمع: شَهَوات، وأشهيه، وشُهًى وهي الرغبة الشديدة مع الحب. وهي طلب النفس ما يلائمها مِنَ الْمَلَذَّاتِ الْمَادِّيَّةِ. (زيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ).
هَفوة: مصدر هَفا. اسم مرَّة من هفا/ هفا إلى/ هفا بـ/ هفا من، .أَسْرَعَ، خَفَّ، سَقَطَ. هفا القلبُ: خفق، اشتاق، مال إلى شيء. هفت النَّفسُ إلى الشَّيء: حنَّتْ واشتاقت إليه.
الحضرة: هي حضور القلب مع الرب. وحَضرة الله هي معيته سبحانه وتعالى قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) ، وقال: (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، وقال: (وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، وقال: (وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)، وقال: (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، كلهمْ في (معية) الله.
جنابة: لغة البعد، والعزلة، واصطلاحا نجاسة معنوية، وهي إحدى موجبات الحدث الأكبر وأسبابها إما الجماع أو إنزال المني.
الغفلة: اسم والجمع: غَفَلات وغَفْلات مصدر غَفَلَ. نقول غفل غفولا وغفلة، فهو غافل، والجمع غفول وغفل. والغفلة سهو وشرود يعتري الإنسان، فإن هو تيقظ أدبرت، وإن هو سها أقبلت، ومنشؤها قلة التحفظ والتيقظ.
هذه الحكمة متممة للتي قبلها فلما كانت العزلة للقلب مصحوبة بدخول (ميدان الفكرة) من أنفع الأدوية للقلب لتفريغه من الأغيار وعمارته بالله، جالبة لأنوار التعرف و(إشراق القلب) بالإقبال على الله والإعراض عما سواه..
وقبل (التحلي) بأنوار الفضائل، لابد من (التخلي) عن ظلمات النقائص، فالنور يمحو الظلمة، وهذه طبيعته، فإذا حل أحدهما في القلب ارتفع الآخر. وهنا أربعة قواطع متفاوتة الظلمات رتبت بشكل تنازلي. هفوة فغفلة فتلبس بالشهوات ثم طبع صُوَرُ الأَكْوَانِ على القلب.
فالغفلة عن الله تورث الميل الى الشهوات (وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) والميل العظيم يورث انطباع الكون (الأغيار) في القلب.
«فكيف يشرق قلب” أخلد إلى الأرض وتعلق بالدنيا واتبع هواه ككلب يلهث بلسانه في كل حركاته وسكناته، (إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) رسمت ونقشت أعيان الموجودات من المخلوقات الفانية على سطح بصيرة قلبه، ففاض ظلامها على أحواله وأفعاله استأثر بالفاني عن الباقي، وبلذة زائلة عن نعيم خالد، وشهوة يعقبها ندم أو مثبطة، إن كانت في المباح، لمن شمر في الرحيل من كدرات الطبع إلى بساط الحق، و«كيف يرحل إلى الله وهو مكبّل بشهواته»؟ وأنى لمثخن بجراحات الشهوات مثبت بقيود إلى الأرض أن يلحق بطائر سالم الجناحين أعرض عن الأكوان وطار إلى المكوّن.
فإذا زحفت على عجرك وبجرك بعد اثقالك إلى الأرض وقد أمرت بالنفير، منعت من الدخول في حضرته. ألم ينهاك بقوله “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا ” فنهاك عن قرب الصلاة حتى تعي وتعقل قولك، وأين السكر بالعنب من سكر شهود السوى بحب الدنيا والأغيار، وأين نجاسة الحدث من نجاسة غفلتك عن مولاك.. (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا). فلا تقرب الصلاة حتى تتيقظ وتتدبر ما تقول في حضرة سيدك ومولاك، ولا تقرب الحضرة حتى تغتسل من جنابة الغفلة عن ربك بجماع شهود السوى حتى تتطهر بماء غيبك عن الخلق بشهود الملك الحق. فإذا رحل القلب من وطن شهوته وتطهر من لوث غفلاته فحينئذ صبغ وضوءه بصبغة العبودية، وانجذب بكليته إلى ربه وزهد في التعلقات الفانية ووصل إلى حضرة ربه وتنعم بشهود قربه.
بعد أن جئت باب الحضرة وأكرمت وفادتك بإذن بالدخول بقيت أمامك عقبة فهم الأسرار، وتلك منحة من سلم من ران الهفوات اللازمة للغفلة. “فقلب تلك ليست صفته كَيْفَ يَرْجُو أَنْ يَفْهَمَ دَقَائِقَ الأَسْرَارِ وَهُوَ لَمْ يَتُبْ مِنْ هَفَوَاتِهِ”.
(فإذا عقدت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت، رجعت إلى صاحبها بطرائف الحكمة من غير أن يؤدي إليها عالم علما )، وهذا قول آبي سليمان الداراني الذي صدقه الإمام أحمد مستدلا بحديث ” من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى