الفقه والشريعةكتاب الراىمنوعات

الوساطة وحل النزاع الأسري/ واقع وآفاق

الميزان/ الدار البيضاء: حسن رقيق

almizan.ma

ظهرت في الآونة الأخيرة الوساطة آليةً بديلة عن المساطر القضائية، من أجل إعادة بناء جسور الحوار والتفاوض بين الأطراف المتنازعة في أفق إيجاد حل رضائي يحقق مصالحهم ويحافظ في الوقت ذاته على علاقة إنسانية فيما بينهم. وإذا كانت الحاجة إليها ماسة – أي الوساطة – من أجل حلحة المنازعات بشكل عام ، فإن الأمر يزداد إلحاحا متى كان موضوع النزاع ذا طابع أسري، خاصة إزاء ارتفاع أعداد ملفات النزاعات الأسرية ببلادنا وما يخلفه من تداعيات سلبية على مستويات عدة؛ واعتبارا كذلك لحض الحنيفية السمحاء على إصلاح ذات البين. في هذا السياق تروم محاولتي مواكبة النقاش الدائر حول فعالية هذه الآلية للحفاظ على أهم وحدة اجتماعية حاضنة للكيان الاجتماعي بكل عناصرها ومكوناتها.
مقدمة:
بعد سنوات من تطبيق مدونة الأسرة في المغرب، وإزاء ضعف محصِّلة العلاج القضائي لملفاتها والمتمثلة في النتائج غير المرضية لغرفة المشورة ومجلس العائلة، أصبحت الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في مسطرة الصلح الأسري، وذلك باعتماد وسائل موازية لتسويتها وحسن تدبيرها خارج ردهات المحاكم بشكل إيجابي وسليم. هنا تبرز الوساطة من بين مداخل تنزيل الفصل 32 من دستور المملكة، باعتبارها آليةً ناجعة يسعى من خلالها وسيط محايد ونزيه للوصول بالأطراف المتنازعة إلى تحقيق معادلة رابح/ رابح في أجواء تتَّسم بالسرية والحوار الهادئ الواعي مستثمرا طاقاتهم وقدراتهم لإعداد حيثيات القرار ومنطوقه بأنفسهم وبمحض إرادتهم،بما يتفق مع مصالحهم ومكاسبهم الذاتية والمشتركة، دون أن يخالف القانون والنظام العام.
أهمية الموضوع:
تكمن أهمية الوساطة الأسرية وحل الخلافات بين أفرادها، فيما خص به الإسلام الأسرة من مركزية في تشريعه الأسري، ولما للحفاظ عليها كنواة للمجتمع؛ من الأثر الفعال في حياة الأمة، حيث جعلها ضمن منظومة عقدية وقيمية شاملة لتحقق العمران البشري، علما منه سبحانه وتعالى بأن انهيار هذه المنظومة المتناسقة أو حتى مجرد خدشها سيهدد كيان اللبنة الأولى للمجتمع، مما قد ينتج عنه تفكك أواصر التراحم والتعاون بين أفراد الأسرة، فتتهاوى باقي أركانه فتفقد بوصلة التنشئة الاجتماعية.
ولمساعدة الأسرة المغربية اليوم على مواجهة التغيرات التي طرأت على واقعها بفعل مظاهر العولمة والتحديث الداعي إلى الاستخفاف بدورها الرئيسي في التنشئة الاجتماعية، لا بد من تكاثف الجهود من أجل الموازنة بين التطور والتحديث، والحفاظ على قيم الأسرة، لنحقق المواءمة بين التطور التقني والتمسك بالهوية الوطنية والدينية.
ومن الملاحظ أن أسباب النزاعات الأسرية تتنوع وتتغير نظرا لعوامل خارجية أو داخلية تتمثل أساسا في غياب الثقافة الأسرية في الأنظمة التعليمية، بالإضافة إلى غياب الدور التربوي للوالدين، وسيادة ثقافة الحقوق و الواجبات كحد أقصى، ويزداد الوضع سوءا في الجهل بالتقنيات والمهارات الحياتية والزوجية، ليجد الزوجان نفسيهما أمام القضاء لحسم النزاع، في غياب شبه تام لجهة أو لمؤسسة تحمل مبدأ إصلاح ذات البين، والتي من شانها أن تنهي هذه الخلافات والنزاعات لتنقذ هذه اللبنة المجتمعية من السقوط في متاهات القضايا اللامتناهية والتبعات النفسية والاجتماعية لهما، ولأطفالهما على وجه الخصوص.
و بناء عليه، وبالرجوع إلى الإحصائيات الخاصة بمدينة الدار البيضاء على سبيل المثال، فإننا نسجل ما يلي:
– خلال سنة 2017 تم تسجيل ما مجموعه 17686 ملفا لحل ميثاق الزوجية (التطليق للشقاق، التطليق للضرر، التطليق لعدم الإنفاق، التطليق للغيبة، التطليق للعيب، التطليق بسبب الإيلاء والهجر، الطلاق الاتفاق، الطلاق بالخلع، الطلاق قبل البناء)، فيما سجل 30828 طلبا لتوثيق الزواج، و نتحصل بذلك على أن نسبة ملفات الطلاق المسجلة من عدد الزيجات خلال سنة 2017 هي 57،36%
– خلال سنة 2018 تم تسجيل 18723 ملفا لحل ميثاق الزوجية، مقابل 31047 طلبا لتوثيق الزواج، وهو ما يعطينا أن نسبة ملفات الطلاق المسجلة من عدد الزيجات خلال سنة 2018 هي:60،3%
– خلال سنة 2019، تم تسجيل 19589 ملفا لحل ميثاق الزوجية، مقابل 31773 طلبا لتوثيق عقد الزواج، وهو ما يعطينا أن نسبة ملفات الطلاق المسجلة من عدد الزيجات المسجلة خلال سنة 2019 هي 61.65%.
من خلال قراءة هذه الأرقام، تتبين لنا الوضعية المقلقة التي يعرفها واقع الأسرة المغربية من خلال الارتفاع المضطرد لعدد ملفات حل ميثاق الزوجية المسجلة بالمحكمة سنة بعد سنة، مع ما يصاحبها من تعدد القضايا الخلافية الأخرى بين المطلقين من نفقة وصلة الرحم وغيرها، والتي قد تشكل عبئا نفسيا واقتصاديا على طرفي النزاع, مما ينعكس بشكل مباشر على استقرار الأسر وجودة حياتهم وعلى مردوديتهم تجاه المجتمع.
وبتزايد عدد القضايا الأسرية المعروضة أمام المحاكم المغربية، وأمام الصعوبات التي تواجه القضاء التقليدي؛ ومن ذلك الإكراهات المرتبطة بالموارد البشرية، فعلى سبيل المثال؛ عدد الملفات الرائجة بشعبة التطليق للشقاق بقسم قضاء الأسرة بمدينة الدار البيضاء خلال سنة 2018 هي 16705، وعدد القضاة الذين يبثون في هذه الملفات هو23 قاضيا، أي بمعدل 726،3 ملفا لكل قاض ، مما يجعل القاضي الأسري أمام ضغط العدد الكبير من الملفات التي تنتظر البث فيها وفي أجل معقول.
أسباب اختيار الموضوع:
لقد حظيت الوسائل البديلة لفض المنازعات باهتمام كبير من طرف المتتبعين لمختلف القضايا الرائجة أمام القضاء الرسمي على المستويين العالمي والوطني على حد سواء، ونظرا للنجاح الذي سجلته الدول التي اعتمدتها خلال مراحل التقاضي أو قبلها، فلقد أدخلها المشرع المغربي في العديد من القوانين سواء المتعلقة منها بقضايا نزاعات الشغل او النزاعات التجارية، كما نحا المشرع المغربي هذا النحو فيما يتعلق بالنزاعات الأسرية، وذلك بإدراجه لمسطرة الصلح في مدونة الأسرة بالنسبة لجميع أنواع قضايا الطلاق والتطليق، وجعلها من المساطر الشكلية الضرورية في سيرورة الدعوى.
غير أن أبرز هذه الوسائل البديلة هي الوساطة الأسرية؛ التي و إن لم ترد صراحة في مواد المدونة إلا أننا نجدها واضحة في ديباجتها، وكذا في عبارة “كل من تراه المحكمة مؤهلا لإصلاح ذات البين” من خلال المادة82 من مدونة الأسرة، ومن هنا يظهر أن عدم إدراج الوساطة الأسرية كآلية لفض النزاعات الأسرية يشكل عائقا أمام تطبيق هذه الوسيلة الفعالة، وإن جاء تعديل قانون المسطرة المدنية المتعلقة بالتحكيم والوساطة الاتفاقية 05_08 ليشكل إطارا قانونيا، إلا أن عدم مصاحبته لمواد مدونة الأسرة، قد ترك فراغا من حيث المسطرة الواجب اتباعها أمام أقسام قضاء الأسرة.
وبما أن جمعيات المجتمع المدني قد بادرت إلى احتضان الوساطة الأسرية وعملت على تطبيقها وممارستها أمام طالبيها في بعض الأحيان أو بطلب من أحد الأطراف، وبالنظر إلى إمكانياتها البشرية واللوجيستيكية التي تبقى غير كافية، إلا انها قد حققت نتائج حسنة وملفتة للانتباه.
أهداف :
يكتسي هذا البحث قيمته العلمية من خلال الأهداف التي أربو تحقيقها والمتمثلة فيما يأتي:
– تعريف الوساطة الأسرية وبيان خصائصها
– تعريف الوسيط الأسري وبيان مؤهلاته ودوره في عملية الوساطة
– التأصيل والتكييف الشرعي للوساطة الأسرية
العرض :
الوسائل البديلة خيار استراتيجي :
لقد أضحت الوساطة خيارا استراتيجيا في المغرب، نتبين ذلك من خلال الخطاب الملكي لإطلاق الإصلاح الشامل والعميق للقضاء ممتدا بعمقه وشموليته لنظام العدالة، محددا المجالات ذات الأسبقية والمحاور الأساسية للإصلاح التي يتعين أن تنكب عليها الحكومة لبلورة مخطط متكامل ومضبوط واضح في مرجعيته وطموح في أهدافه ، ويتعلق الأمر بتحديث المنظومة القانونية،تأهيل الهياكل القضائية والإدارية،تأهيل الموارد البشرية،الرفع من النجاعة القضائية،تخليق القضاء وتحصينه من الارتشاء واستغلال النفوذ،علاوة على محور تطوير الطرق القضائية البديلة لفض النزاعات .

الوساطة لغة : مأخوذة من كلمة وسَط يسط وساطة، يقال:وسطت القوم أسِطهم وسطا وسِطة أي توسطتهم،وتوسط بين طرفين أي عمل الوساطة بينهما. وكل هذه المعاني تشير إلى صفة الخيرية والمكانة والفعل المتمثل في الوصل والتقريب بين طرفين، مما يبين بجلاء الحمولة الإيجابية التي تحملها عبارة الوساطة .
– الوساطة اصطلاحا : هي آلية لتدبير النزاع وتسوية العلاقة البينية بين أطرافه برعاية وسيط محايد ومستقل عنهم، بهدف نقلهم من حالة الخصام إلى التفات كل منهم نحو الآخر للتحادث والتفاوض المباشر عن طريق الحوار الهادئ الواعي ، في إطار اجتماع سري ، لردم هوة الخلاف بينهم وصولا بهم ومعهم إلى حل رضائي توافقي، طوعي مؤقت أو دائم، بما لا يتعارض مع القانون والنظام العام ، ناهيك عن الأرباح التي تتحقق نتيجة اللجوء إليها ، من ذلك الاقتصاد في الوقت وترشيد التكاليف المادية وتوفير الجهد النفسي والمعنوي ، كما لا يقتصر دورها على تسوية النزاعات فحسب ، بل هي فضلا عما ذكر أداةٌ فعالة تفعل فعلها في تغيير وعي الإنسان وإعادة بنائه وفق منظور حضاري فتنمِّي فيه الملَكة والقدرة على مواجهة صعاب الحياة ومشاكلها وتدبير النزاعات بطرق سلمية وبمقاربة تشاركية تعاونية تكاملية تتحقق من خلالها القيم الإنسانية الكونية في بعدها الأخلاقي والتصالحي بما يضمن مصالح الفرقاء ويحافظ في الآن نفسه على استمرار العلاقة بينهم ,
– خصائص الوساطة
– لقد أثبتت الوساطة نجاعتها في تدبير الخلافات وتطويق النزاعات من خلال ما تنفرد به من خصائص ومميزات تجعلها أكثر جدوى وفاعلية، من ذلك:
– الخيار الذاتي تتجلى في الآني :
– تقبُّل الوساطة واتفاق دون إكراه
– رغبة الأطراف للسماح بتدخل طرف ثالث
– لا يوجد أي التزام يردع الطرف غير الراغب في الوساطة في المشاركة فيها
– من بداية عملية الوساطة إلى نهايتها وذلك من خلال القدرة الكاملة للأطراف في اختيار اللجوء إلى الوساطة لتسوية النزاع من عدمه، واختيار الوسيط والاستمرار فيها من عدمه واختيار الحل وطريق تنفيذه . لذا فمن حق الأطراف اللجوء إلى الوساطة الاتفاقية متى أرادوا ، سواء قبل عرض النزاع على القضاء أو حتى بعد عرضه، كما يمكنهم الانسحاب منها في أي وقت واللجوء إلى وسيلة أخرى لتسويته، علاوة على موافقتهم برضاهم وبمحض إرادتهم حول شخص الوسيط . وإذا كانت الإرادة الحرة هي الأصل في لجوء الأطراف إلى الوساطة فإن الأمر نفسه ينطبق على الوسيط، ومن ثم فإن له كامل الحرية في الموافقة على قبول المهمة أو رفضها، ولا يعتبر حالَ رفضه مرتكبا لجريمة إنكار العدالة كما هو الحال بالنسبة للقاضي الذي ليس له حق رفض مهمة الفصل في الدعوى حتى وإن كان لا يرغب بالنظر فيها .
– -سهولة الولوج لكل طبقات المجتمع بغض النظر عن مستوى تكوينهم التعليمي والمهني أو انتمائهم العرقي والديني .
– الحضورية والمشاركة الشخصية: مما قد يمكن الوسيط من حصر النزاع في أضيق الحدود بحثا عن فرص ممكنة لتسويته، فضلا عن التأثير النفسي والجو التصالحي الذي يضفيه على عملية الوساطة. وليست تعني الحضورية المواجهة بين الأطراف تحقيق انتصار طرف على آخر عن طريق المحاججة بالأدلة والبراهين، بل الهدف في جوهر الوساطة دفعهم إلى تسوية ودية لنزاعهم من صنعهم بمعادلة رابح / رابح، بعيدا عن معيار الربح والخسارة .
– التخفيف من التعقيدات المسطرية : فهي، أي الوساطة، لا تحتاج إلى وقت لدراسة المراكز القانونية للأطراف، ولا لكثرة الاستدعاءات والخبرات والإجراءات القضائية .
– -السرية ، بما هي مجال مريح للتعبير بحرية وطمأنينة عن خبايا النزاع وأصوله وأسبابه الحقيقية، من خلال إدلاء كل طرف بما لديه من معلومات وإفادات وتقديم تنازلات في مرحلة المفاوضات في أجواء مريحة دون خوف من أي تأثير على مصالحهم، مما يسهم في تقريب وجهات النظر، علاوة على الانعكاسات الإيجابية لمبدأ السرية المتمثلة في تطبيع العلاقة واستمرار التعايش السلمي بين الأطراف المتنازعة . وكما أن على الوسيط احترام مبدأ السرية فإن من واجبه كذلك تلقينه لكل مشارك في الوساطة، حفاظ على سمعة الأطراف وأعراضهم، خاصة في النزاعات ذات الطابع الأسري والعائلي.
– -السرعة والفاعلية: وتتجلى في احترام المدة الزمنية المحددة مسبقا من قبل القانون أو الأطراف، كما يمكن الحسم فيها في آجال قصيرة وأحيانا في إطار جلسة واحدة، هذا بخلاف ما عليه القضاء الرسمي بحكم طول إجراءاته ومساطره المعقدة البطيئة أحيانا، والتي قد تستغرق زمنا طويلا، حيث يبقى أطراف النزاع رهائن إجراءات بطيئة قد لا تكون دائما ضرورية ومبرَّرة مما تتفاقم معه الأضرار والتكاليف.
– الحياد : حيث إن نجاح الوسيط في أداء مهمته رهين بمدى استقلاليته عن أطراف النزاع، فلا تكون له أي صلة بأحدهم أو من ينوب عنهم، سواء روابط مهنية أو اجتماعية أو عائلية، ولا تكون له أي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في النزاع المعروض عليه، ولا يتلقى التعليمات من هذا الطرف أو ذاك، ولا يكون دائنا أو ضامنا أو كفيلا أو وكيلا عن أحد الأطراف،كما لا يقبل هدية أو خدمات أو قرضا أو كل ما من شأنه أن يضع حقيقة حياده موضع تساؤل، فإذا تأكد لديه عدم القدرة على القيام بمهمته دون محاباة أو انحياز أو محسوبية أو أفكار مسبقة وجب عليه التنحي. وليس يعني ذلك أن الوسيط لا يملك فكرة شخصية جول النتائج التي يرغب في الوصول إليها ، أو أنه لا يستطيع أن يشعر بالود تجاه طرف أكثر من الآخر.
– المرونة:
وتعني تعديل النشاطات وفقا للمتغيرات، والسند في ذلك اختيار أطراف النزاع اللجوء إلى اختيار الوسيط، ورغبتهم في حل نزاعاتهم على المقاس الذي يرغبون فيه، ومن ثم فالوسيط غير ملزم بالقواعد الإجرائية التي تسير عليها مسطرة التقاضي من حيث الآجال وشكلية المقال والدفوع والمستنتجات ومناقشة الأدلة ومدى قانونيتها بشكل يترتب على إغفالها بطلان الإجراء أو النتيجة التي تم التوصل إليها، بل بإمكان الوسيط التنسيق مع الأطراف حول الإجراءات اللازمة لسير عملية الوساطة في كل مراحلها دون قيد أو شرط، من حيث تنظيم تاريخ ومكان الجلسات،تأجيلها أو تقديمها أو الاستمرار فيها،لغة النقاش،ترتيب المداخلات،الوقت الممنوح لكل طرف،تحديد الأتعاب من قبلهم إذا كانت اتفاقية بكلفة مالية أقل من كلفة التقاضي،إمكانية حل جزء من النزاع أو كله،تحديد موعد كل جلسة،مقابلة الأطراف مجتمعين،الانفراد بكل طرف، إنهاء الوساطة في أي وقت،علاوة على حقهم في التراجع عن أي عرض أثناء الجلسات ما لم يتم تثبيته خطيا، وكذا حرية الانسحاب واللجوء إلى القضاء باعتباره الملاذ الأخير .
– المكسب المشترك : من خلال تكريس حق تقرير المصير المتمثل في تحقيق تسوية مرضية لأطراف النزاع من خلال التحاور والتفاوض والاقتراحات المتبادلة بمنطق لا غالب ولا مغلوب، بل مكاسب ومصالح مشتركة ، و غير خافٍ ما لهذا من انعكاسات إيجابية حين الانتقال إلى مرحلة التنفيذ ، على عكس عملية التقاضي التي تخرج بأحكام قضائية متمثَّلة في أسلوب الربح والخسارة التي قد تدفع الطرف الخاسر لعرقلة الطرف الرابح عند تنفيذ الحكم القضائي، إضافة إلى إجراءات التنفيذ الروتينية المكبَّلة بالقانون و الموصوفة بطول الفترة الزمنية.
– الاستقلالية في صنع القرار : فإذا كان القانون يرسم طريق الدعوى من بدايتها إلى نهايتها ، وللقاضي سلطة كاملة للفصل في النزاع واتخاذ ما يراه مناسبا دون الالتفات إلى ما يريده الأطراف،ففي الوساطة لا يملك الوسيط سلطة تقرير الحل وفرضه عليهم، بل هم من يملك حق تقرير مصيرهم.
– الحل المتوصَّل إليه غير قابل للطعن :لأنه نابع من الأطراف أنفسهم عن اقتناع وطواعية وإرادة حرة منهم بعدما ساهموا في إعداد حيثياته ومنطوقه، بل ويأخذ شكل عقد، والعقد شريعة المتعاقدين، ولا يمكن تعديله إلا بإرادتهم، عكس القضاء حيث يمكن لكل طرف لم يرقه الحكم أو القرار الذي صدر عن المحكمة أن يبادر إلى الطعن فيه بإحدى طرق الطعن المباشرة أو غير المباشرة بحثا عن مراجعته بما يحقق مصلحته، وهو يملك هذا الحق حتى ولو كان هذا الحكم قد صدر لمصلحته النسبية، لكنه لا يرضي كامل طموحه .
– الحفاظ على علاقات طيبة بين الفرقاء بعد التسوية بدل الحزازات والضغائن والمشاحنات، و هذا لا شك يسهم في استقرار المجتمع وتماسكه وأمنه.
لماذا الوساطة الأسرية:
إن الأسرة، رغم غموض مدلولها واختلاف وجهات النظر حول تعريفها تبعا لاختلاف الزاوية التي ينظر منها كل باحث، إلا أن الاتفاق قائم حول محوريتها في صياغة الوجود الإنساني الفردي والجماعي وأهميتها كنظام اجتماعي يؤدي وظائف ضرورية وحيوية . هي نواة المجتمع عن طريق رابطة الزواج بين رجل وامرأة يتفرع عنهما البنون والحفدة ، أولادا وأسباطا ، ثم أعماما وعمات وأخوالا وخالات. أولاها التشريع الإسلامي عناية خاصة وبوأها منزلة عالية باعتبارها نظاما اجتماعيا متكاملا مع باقي أنظمة المجتمع الأخرى التعليمية والاقتصادية وغيرها، كما يظهر الاعتناء بها في كون القرآن الكريم، الذي منهجه الإجمال، قد فصَّل أحكامها وأفاض الحديث عن شؤونها من خلال منظومة تشريعية دقيقة متماسكة مفصلة غير مقتصرة على الجانب الإجرائي القانوني، بل معززة بمجموعة من القيم التي تشكل سداها وتمثل لحمتها حتى تؤدي وظيفتها على الوجه الأكمل لتنعم بالاستقرار والتساكن بين أفرادها ، بل إنك إن أمعنت النظر وجدت أن موضوع الأسرة هو ثاني موضوع تفصيلي في التشريع بعد موضوع العبادات .
أجل، لقد اعتنى بها الشرع الحكيم مصاحبة ومواكبة وتتبُّعا من وقت إنشاء الزواج أو التفكير فيه إلى أن يقرر الله تعالى التفريق بين الزوجين بالموت، أو يصلا بإرادتهما إلى انحلال ميثاق الزوجية، محددا آليات التعامل في كل مستوى ومرحلة على حدة ، سواء في حالة الوفاق أو الشقاق أو مرحلة الطلاق وترتيبات ما بعده.
تم التنصيص في مدونة الأسرة من خلال المادة 82 على مؤسسة الصلح من خلال ما اصطلح عليه بمجلس العائلة كإطار مؤسساتي أنيطت به مهام التحكيم الأسري لإصلاح ذات البين ، كما يمكن للمحكمة صرف النظر عن الحكمين ومجلس العائلة، والاستعانة بأي شخص، أو جهة أخرى ترى أنها مؤهلة لتحقيق المصالحة بين الزوجين. تقول المادة “للمحكمة أن تقوم بكل الإجراءات، بما فيها انتداب حكمين أو مجلس العائلة ، أو من تراه مؤهلا لإصلاح ذات البين، وفي حالة وجود أطفال يتعين القيام بمحاولتين للصلح تفصل بينهما مدة لا تقل عن ثلاثين يوما”. وحيث كان التركيز في المرحلة الأولى من تنزيل المدونة منصبا على توفير الوسائل المادية والبشرية والإجراءات المسطرية فقد كان من نتائج ذلك أحيانا شبه تعطيل لمسطرة الصلح أو عدم تطبيقها على الوجه الأكمل. وبعد تقييم موضوعي لهذا المسار تبين أن الحاجة أضحت ملحة إلى البحث عن عناصر الجودة في أداء القضاء الأسري والرقي به إلى المستوى الرفيع الذي يستجيب لطموحات بلدنا في بناء قضاء أسري كفء وفعال.
الصلح القضائي باعتباره إجراء مسطريا جوهريا وإجباريا نمصوصا عليه في عدة محطات من القانون ، المواد 81-82-89-113-114-120 وغيرها من مدونة الأسرة
وعيا من المشرع بهذا الأمر نص على إجراءات الصلح من خلال المدونة ، فرصد آليات خاصة كما منح للقضاء كامل الصلاحيات في اختيار أية مؤسسة مناسبة.
أجل ، لقد توخت السلطة القضائية حلولا ناجعة لملفات الأسرة من خلال آلية الصلح ، لكن تبيَّن بعد سنوات من التطبيق أن النتائج المتوخاة منها لم ترقَ إلى طموحات واضعي مدونة الأسرة وانتظارات أطراف النزاع .
لماذا فشلت مسطرة الصلح ؟
منها أسباب مصدرها القانون ،وأخرى مصدرها القاضي ، وأخرى مصدرها هيئة الدفاع ، وأخرى مصدرها الأطراف أنفسهم .
الأسباب الذاتية:
– النفور من فضاء المحكمة بسبب تمثلات أغلب الناس لفضاء التقاضي.
– تواتر نزعة التقاضي الكيدي التعسفي .
– التعنت والتشبث بخلفية الخصومة والأنانية والتعصب و سوء النية والطمع والجشع.
– ضعف الاستعداد النفسي للصلح من الزوجين.
– ضعف الاقتناع بجدوى الصلح ومنافعه المادية والمعنوية من حيث الكلفة والزمن.
– عدم التزام الزوجين بالصراحة والوضوح وتحفُّظهما من البوح ببعض الحقائق والتفاصيل الكفيلة بتسهيل مسطرة الصلح واعتبارها من قبيل الأسرار الخاصة، بل من الناس من يعتبر الإفضاء بها جريمة وعارا أمام سطوة التقاليد الموروثة.
– عدم تحمسهما لتقديم بعض التنازلات أمام قاضي الصلح.
– الجهل بمصالحهم الحقيقية
– استعمال المساطر الكيدية
– عدم أهلية الحكمين و افتقادهما لآليات الإصلاح ، وفي الغالب تكون إرادتهما تابعة لإرادة أحد الزوجين المتنازعين فيصبحان جزءا من المشكل وسببا في تأجيج الخلاف وتعميق الهوة بين هما بسبب الكراهية والتعصب الحاد والرغبة في الانتقام.
– تفشي ظاهرة الأمية وضعف مستوى الوعي الاجتماعي لدى بعض شرائح المجتمع .
الأسباب الموضوعية :
– الاختناق القضائي بفعل الارتفاع الهائل في عدد الملفات المعروضة .
– ضعف الإمكانات البشرية والمادية حالَ مقارنة عدد القضاة مع عدد القضايا الرائجة في المحاكم العادية والمتخصصة ومحكمة النقض ، ومقارنة ذلك بنسمة السكان .
– البطء في إصدار الأحكام
– بطء الإجراءات وتعقيد المساطر.
– غياب المرونة وغلبة الجانب الشكلي على الوظيفة الصُّلحية.
– عدم استيفاء الحقوق داخل آجال معقولة .
– ضيق الوقت المخصص للصلح مع عدم ملاءمة الفضاء لتحقيق الغاية منه .
– إضفاء الصبغة الاستشارية غير الملزمة لاقتراحات الحكمين.
– غياب آليات التواصل وتقنيات الحوار لدى بعض المتدخلين.
– دور شكلي للقاضي لا يتعدى طرح السؤال : هل ترغب في الصلح ؟
– إسناد المهمة للقاضي يجعل من الأطراف يتحفظون ويمتنعون عن تقديم أسرار وتنازلات خشية انعكاس ذلك على مراكزهم القانونية أمام القاضي نفسه
– يعمل بقبعتين ، ومن الصعب عليه التنصل من المعلومات التي وقف عليها عند مسطرة الصلح
– قاضي الصلح هو القاضي المكلف بالفصل في جوهر النزاع
– تحفظ الأطراف في الكشف عن بعض التفاصيل باعتبارها من قبيل الأسرار الشخصية
– ضعف مؤشر اطمئنان الأطراف للقاضي المسدد ، بالنظر إلى أنه في حالة الفشل سوف يصدر حكمه الفاصل الذي قد لا يرضيهما معا
-عدم إسهام هيئة الدفاع بالصورة الإيجابية
– غياب الصراحة والوضوح وعدم تبصيره بمركزه القانوني الحقيقي
الوساطة الأسرية ضرورة مجتمعية:
بعد حصر أسباب عدم نجاح المسطرة أصبح بالإمكان تحديد الوسيلة الناجعة والكفيلة بعلاج الإشكالات انطلاقا من التجارب الأجنبية التي اتجهت إلى تقنين الوساطة الأسرية في نصوص واضحة ومفصلة
بعد رصد الفاعلين والقائمين على شأن الأسرة المغربية لواقع حالها ، وإقرارهم بعدم تحقيق الغاية المتوقَّعة من مسطرة الصلح كما ورد في التقرير السالف الذكر، وتحديدا من الصفحة 82 ما نصه:” الصلح في حاجة إلى مزيد من الجهد والتطوير في آلياته من أجل تحقيق الغاية منه” . لذا أضحت الحاجة أكثر إلحاحا إلى مأسسة الوساطة الأسرية ، وهذا الذي تمت الإشارة إليه في الصفحة الصفحة 67 من التقرير نفسه: “وبالرغم من المجهود الذي تبذله المحاكم في إصلاح ذات البين بين الزوجين يبقى من الضروري إعادة النظر في آليات إجراء الصلح بين الأزواج داخل فضاء المحكمة ومعالجة الصعوبات التي تعترض تفعيل مسار الصلح بالشكل الذي يضمن تحقيق أفضل النتائج، وأيضا مأسسة الوساطة الأسرية بقضاء الأسرة”،ضمانا لتماسك الأسرة وحماية للمصالح الفضلى للأطفال “.
” فابعثوا حكما ”
إذا كان كل ما يفضي إلى استقرار الأسرة محمودا ومطلوبا، فقد جاء الخطاب القرآني يحثُّ أولياء المجتمع ويحضُّهم على التدخل الفوري عند توقُّع الشقاق بين الزوجين وظهور بوادره تفاديا لآثار الطلاق الوخيمة على جميع المستويات فقال عز من قائل :”وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ” ،مما يبين بجلاء أن الشأن الأسري ليس شأنا فرديا ، بل هو همٌّ جماعي.
” فابعثوا “…
يقظة مجتمعية بكل المؤسسات والمكونات، واستنفار للطاقات واستنهاض للقدرات وتسخير للجهود بهدف تطويق الخلاف قبل استفحاله، بحيث يأخذ الحكَمان زمام المبادرة ،إذ هما الأعرف ببواطن الأحوال وأقرب للإصلاح ونفوسُ الزوجين إليهما أسكن، فيفصلان بكل حياد وموضوعية في النزاع بما يضمن سريته وخصوصيته ، حتى إذا توافقت إرادة الزوجين مع نية الحكمين تحققت النتيجة المرجوة بإذن الله تعالى . لكن ، ما العمل إذا ما تخلَّفت واسطة القرابة أو عجزت عن القيام بهذه المهمة الجليلة ، وغابت الشروط الذاتية والموضوعية للتدخل الإيجابي الناجح من قبلهما في محاولتهما استقصاء أسباب النزاع ومحاولة التوفيق وتذويب الخلافات بين الزوجين ؟ أرى أن الوضع في هذه الحالة يستدعي تدخل طرف ثالث من خارج دائرة الأسرتين عملا بقاعدة ” للوسائل حكم المقاصد، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، ذلكم الشخص هو الوسيط الذي يتدخل في مرحلة الشقاق، إما رجوعا إلى حالة الوفاق ، أو تدبيرا راشدا للطلاق .
رهانات تفعيل الوساطة الأسرية في المغرب:
إن الوساطة باعتبارها آلية من آليات تصريف النزاع واحتوائه بطريقة ودية وسلمية تستلزم ، من أجل إنجاحها وتحقيق المرامي المنشودة منها على أرض الواقع، تدخُّل فاعلين أساسيين، كل حسب مهمته، من منطلق المسؤولية المشتركة :
– القاضي : وذلك من خلال تشجيعه الأشخاصَ على الوساطة وتحسيسهم بأهميتها ونجاعتها ومزايا اللجوء إليها، وإجبارهم أدبيا على سلوكها في فضِّ نزاعاتهم وتطويق خلافاتهم بطريقة ودية . لذا أضحى من الضروري انفتاح جهاز القضاء وتواصله وتعاونه كقطاع عام مع الفاعلين المهنيين وهيئات المجتمع المدني بما فيها الجمعيات المهتمة بقطاعات المرأة والأسرة والطفولة والشباب ومراكز الاستماع والتدريب والإرشاد والاستشارات كقطاع خاص .
– المحامي:
– اعتقاد تراجع مصالح مهنته أو تراجع حجم مداخيله كلما تم الحسم في ظرف وجيز وبطرق سلمية
– بصفته شريكا في تصريف العدالة،واستحضارا لمكانته ومركزيته، إذ هو أول من يحال عليه ملف النزاع قبل التوجه إلى دهاليز المحكمة فإن باستطاعته ، وبكامل الشفافية والوضوح والصراحة ، أن ينصح موكِّله قبل رفع الدعوى بجدوى اللجوء إلى الوسائل البديلة، ومنها الوساطة، كطريق ودي لتذويب الخلافات. يشرح مزاياها وفوائدها ومنافعها ومسارها ومراحلها، حتى إذا فشلت محاولة التوفيق يرجع مع موكِّله إلى نقطة الصفر بمراجعة القضاء باعتباره ملاذه الأخير . ومن تمام حرص المشرع المغربي على إنجاح آلية الوساطة، فقد شدَّد عليه أن ينصح موكِّله على ضرورة اللجوء إليها متى رأى أن له فيها مصلحة، وذلك من خلال النص التالي: “يحثُّ المحامي موكِّليه على فضِّ النزاع عن طريق الصلح بواسطة الطرق البديلة الأخرى قبل اللجوء إلى القضاء” .
– -العدول: والذين تعتبر مهنتهم من أشرف المهن المساعدة للقضاء من خلال الدور الطلائعي الذي يقومون به في الحد من الأزمات، خاصة الأسرية، لما لهم من سلطة معنوية وتفسيرية للنصوص الفقهية والنوازل الشرعية في قضايا الزواج والإرث وما إلى ذلك. ولا أترك الفرصة تفوتني لكي أهنئ المرأة المغربية على ولوجها لمهنة العدول انسجاما مع مقتضيات دستور 2011، فيما له علاقة بالمساواة بين المواطنين والمواطنات في الحقوق والحريات ، اعتبارا لما أبانت عنه من أهلية وكفاءة ومهنية واقتدار في توليها لمختلف المناصب السامية و المجالات الاقتصادية والاجتماعية ، وبذلك يكون القرار بمثابة “تحصيل حاصل” .
– المجالس العلمية : في هذا الصدد ، وتفعيلا لمقتضيات المدونة ،نذكِّر بالمنشور الذي أصدره وزير العدل سابقا السيد محمد الطيب الناصري رحمه الله للسادة القضاة المشرفين على أقسام قضاء الأسرة، حاضًّا إياهم على التعاون مع المجالس العلمية في إطار الإصلاح بين الزوجين، وقد أرسل المجلس العلمي الأعلى مذكرة إلى رؤساء المجالس العلمية داعيا إياهم إلى الانخراط في كل ما من شأنه تحقيق الأمن والاستقرار الأسري ،وتمت استجابة المجالس العلمية بعد صدور المنشور والمذكرة سنة 2011 ، وشرعت في العمل فيما سمي بخلايا الأسرة بتنسيق مع المسؤولين القضائيين بأقسام قضاء الأسرة للعمل داخل المحكمة بمقراتها في فضاء خاص على التقريب بين الأزواج المتخاصمين ورأب الصدع بينهم. في هذا السياق أقترح أن تتم إحالة أطراف النزاع على المجالس العلمية قبل إقامة الدعوى، مع توفير مراكز خاصة وملائمة لعملية الإصلاح بعيدا عن جو المحكمة،يواكب ذلك التكوين النفسي والاجتماعي للقائمين بمهمة الإصلاح.
– فعاليات المجتمع المدني : باعتبارها شريكا أساسيا في كل برامج التنمية بصفتها مجتمعات القرب الكفيلة بتحقيق التواصل الدائم و غير المشروط مع المواطنين والمواطنات ، ومن ثم القيام بتوعيتهم وتحسيسهم وتعزيز ثقتهم بجدوى الوساطة باستعمال كتيبات ومطويات لإشاعة ثقافة التصالح والحوار بين الأفراد والجماعات ، لذا وجب فتح حوار مع الجمعيات ، سعيا لتقوية قدراتهم في حل النزاعات بصورة ودية، بعد خضوعهم لدورات تكوينية للوقوف على التقنيات الخاصة بالوساطة والمهارات الضرورية والمسطرية الواجب سلوكها أثناء ممارستها .
– الإعلام بكل أشكاله : بما هو عامل أساسي و فاعل مفصلي في توعية الرأي العام بثقافة التسامح والحوار من خلال تقديم برامج إذاعية وتلفزيونية، وموسوعات إلكترونية، ووصلات إشهارية، وكل ما من شأنه تفسير مراحل الوساطة ونجاعة نتائجها على الفرد والمجتمع، تعتمد في ذلك كله التبسيط مراعاة منها لمنسوب الوعي ونسبة الأمية التي تعرفها بعض الأوساط الاجتماعية.
– أطراف النزاع : هم الرهان الأكبر في نجاح الوساطة بناء على ما يتوفرون عليه سلفا من قدرات ذاتية تمكنهم من إنجاز المطلوب منهم، مع صدق إرادتهم في الصلح وقبولهم العدالة اللينة السريعة والفعالة عن طواعية ورضا، والنأي عن سلوكيات ومواقف العناد والتنافسية، فضلا عن التزامهم بالحضور لجلساتها والبوح بكل صدق ووضوح في كل مراحلها .
خصائص الوسيط
إن نجاح الوسيط في دفع الأطراف إلى الاستمرار في الوساطة وصولا إلى تسوية النزاع رهين ، فضلا عن تشبثه بالقواعد المنظمة للوساطة، بمدى توفره على مواصفات وخصائص مسبقة.
* خصائص شخصية
– الإيمان بنبل الرسالة والإخلاص لها.
– الوازع الديني أوالمروءة .
– الاحتراز من كل ما قد يخلُّ بالاستقامة.
– المصداقية في الوسط الاجتماعي . ثقة الأطراف فيه ، في خبرته ،
– الأهلية القانونية المتمثلة في عدم صدور أي حكم قضائي ضده.
– عدم وجود أصول أو فروع أو علاقة نسب أو قرابة أو تبعية أو مصلحة شخصية في موضوع النزاع.
– الكاريزما، بما تعنيه من سلطة معنوية ذات حضور وجاذبية وقدرة على فرض احترام الأطراف بعضهم بعضا، والسيطرة على كل حركة أو إشارة قد تؤثر بشكل سلبي على العملية ،وتعزيز عملية التفاوض .
– الدبلوماسية المحفزة على بسط الاحترام المتبادل بين الأطراف المتنازعة .
– المظهر الجيد المريح استحضارا لطبيعة الانطباع الأولي لدى المخاطَب.
– الحكمة وبعد النظر .
– دماثة الخلق ، خاصة الحلم والتأني وهدوء الطبع.
– الاتزان النفسي والثبات الانفعالي تجاه مواقف الضغط الخارجية.
– الصدق والشفافية في المشاعر والأقوال والأفعال.
– الأمانة والحفاظ على سرية المعلومات.
– التفاؤل والأمل في تحقيق الأهداف.
– خفة الروح بالقدر الذي يخفف من حدة التوتر ، أما في المواقف ذات الخلفية الثقافية المتنوعة فيجب استخدامه بحذر لئلا تترتب عنه نتائج عكسية .
* خصائص علمية :
– المعرفة بالقواعد المنظمة للوساطة بصفة عامة.
– المعرفة الجيدة لمختلف الأوضاع الاقتصادية والدينية والعرقية والعادات والأعراف والعقليات السائدة في الوسط الذي يتدخل فيه، وذلك حتى يسهل عليه فهم مسببات النزاع وخلفياته، علاوة على معرفته.
– الاضطلاع على مستجدات الوساطة والتطورات التي تشهدها في مجال الوقاية وفض النزاعات من خلال المراجع العلمية وحضور الندوات والمؤتمرات و الدورات التكوينية.
– الإلمام بالتخصصات المساندة مثل علم النفس وعلم الاجتماع وعلم دراسة الإنسان وكل ما من شأنه فهم ودراية الأبعاد النفسية للسلوك الإنساني .
– التمكن من قواعد اللغة والقدرة على القراءة والكتابة واختيار الكلمات التي تفي بغرض التوسط أثناء الحوار مع الأطراف أو أثناء تحرير اتفاق الوساطة.
– الإلمام بالجانب القانوني: وليس يعني ذلك التخصص بقدر ما يعني الاطلاع على مختلف القوانين المنظمة لحقوق الأفراد في البلد محل النزاع ، وذلك حتى يتمكن من تحديد النزاعات الممكن النظر فيها عبر الوساطة، ومعرفة مدى حدود الاتفاقات الناتجة عنها ، تفاديا للوصول إلى اتفاقات غير قانونية .
* خصائص عملية:
– القدرة على التواصل الجيد ،تحدثا وإنصاتا وإقناعا.
– التمكن من مهارات التواصل ليسهل عليه الاندماج بسهولة مع أطراف النزاع في مختلف حيثياته.
– القدرة على بناء الثقة باعتبارها مناط الاستمرار في عملية الوساطة .
– القدرة على تفكيك عناصر النزاع وتحليلها ومعرفة أي منها يقبل الحل عبر الوساطة واستبعاد تلك التي لا يمكن أن تكون موضوع وساطة .
– القدرة على تحويل مواقف الأطراف إلى مصالح وإخضاعها لميزان المساومة ومساعتهم على تحقيق معادلة رابح رابح .
– القدرة على مساعدة الأطراف على تحديد مصالحهم وتقييمها ومعرفة الأساسية منها والثانوية ، والتي يمكن التنازل عنها والتي من غير الممكن التفريط فيها .
– القدرة على مساعدتهم على اقتراح الحلول والخيارات المتعددة وتقييمها .
– القدرة على دفعهم إلى حسم خياراتهم وتقديم التنازلات الممكنة .
– سرعة البديهة وحسن التخلص في المواقف الطارئة والمواقف الحرجة.
– روح المرح والدعابة الهادفة.
– حسن توظيف لغة الجسد.
– جودة العزف على أوتار الصوت حسب كل موقف على حدة.
– إتقان فن الإصغاء لتفسير منطوق الكلام وتحليل الإشارات والإيماءات الحسية.
– القدرة على تحويل مسار التفكير مع تغيير الموقف حسب متطلبات الظرف ، وتقديم خطط بديلة بدل التقوقع حول خطة بعينها.
– القدرة على التحليل والاستدلال اللفظي والاستنتاج المنطقي.
– الذكاء المفضي إلى استشفاف مواقف الأطراف النهائية.
– بث الثقة في نفوس الأطراف.
– تجنُّب التعصب لأي طرف بناء على سماته الشخصية أو فكره أو معتقداته أو مركزه الاجتماعي.
– تحري العدل والإنصاف في تعامله مع أطراف النزاع.
– الاستقلالية عن أي سلطة تجنبا للتأثير على مقاربة الوسيط ومنهجيته في سير الوساطة.
لا يطمح في تحقيق أي مكاسب أو مصالح من الأطراف باستثناء الأتعاب المستحقة له .
يتحفظ من قبول هبات أو هدايا أو كل ما قد يساء فهم الهدف منه أو يضع حقيقة الحياد موضع تساؤل . وليس يعني الحياد أنه لا يستطيع تكوين فكرة شخصية حول الحلول والنتائج ، بل حياده يتمثل في قدرته على الفصل بين رأيه الشخصي حول موضوع النزاع وعواطفه تجاه الأطراف، وبين القيام بواجبه في مساعدتهم ودفعهم نحو الحل.
– الحفاظ على سرية المجالس: وهذا أمر جوهري والتزام أخلاقي قبل أن يصبح التزاما قانونيا ، تنبع أهميته من الرغبة في إضفاء جو من الامن والثقة المتبادلة بين جميع المتدخلين في عملية الوساطة مما يحفزهم على التعاون أكثر .
– أدوار الوسيط :
– التوفيق بين المصالح المتضاربة بعد تفحصها من أجل الدفع نحو التفاوض
– جوهر العملية
– يسهم في تيسير الحوار والتفاوض
– تجميع معطيات وعناصر القضية
– تثبيت ثقافة الإنصات
– التخفيف من حدة النزاع
– امتصاص غضب الأطراف
– تقريب وجهات النظر والمصالح
– تعزيز الثقة بين الأطراف
– البحث عن أرضية مشتركة
– الحفاظ على العلاقة الاجتماعية
– وضع صمانات التنفيذ
– تمكين طرفي النزاع من الوصول بإرادتهما إلى حل يصنعانه ويرتضيانه بصفة شخصية مباشرة، ويسعيان بالتالي إلى تنفيذه .
– ليس له مصالح ذاتية في التدخل أو في نتائجه
– غياب أي تحزب أو تفضيل لطرف على آخر أو لمصالح وحلول على مصالح وحلول أخرى
– صلاحيات محدودة
– لا يملك سلطة اتخاذ القرار
– مساعدة الأطراف المعنية على الوصول طوعا إلى اتفاق رضائي توافقي مقبول منهم بأقل التكاليف المادية والأضرار النفسية من خلال عملية وساطة منظمة المراحل ومضبوطة الزمن .
توصيات :
* مأسسة الوساطة لفض مختلف النزاعات وعلى رأسها النزاعات الأسرية.
* تنظيم مجال الوساطة الاسرية.
* اعتماد الوساطة القضائية كانطلاقة لتعميم سلوكها ببلادنا.
* إخراج نص قانوني صريح ينظم آلية الوساطة الأسرية ببلادنا، وذلك بإدراجه ضمن نصوص مدونة الأسرة.
* إسهام وسائل الإعلام في التعريف بالوساطة الأسرية كآلية بديلة عن المساطر القضائية.
* إدماج ثقافة الحلول البديلة في الثقافة المغربية عن طريق احتضانها من طرف النظام التعليمي والجامعي.
* إيجاد صيغة ملائمة للخصوصية المغربية باعتبار تنوع ثقافاته وتقاليده من إقليم إلى آخر.
* التنسيق بين كل من وزارة التعليم العالي ووزارة العدل ووزارة الأسرة، لخلق تكوين خاص بالوسيط الأسري يجمع بين الجانبين النظري و التطبيقي.
* أن تكون مهنة الوسيط الأسري مهنة مساعدة للقضاء كالمحاماة والموثقين والمفوضين القضائيين.
*تفعيل مؤسسة الإرشاد الأسري، كمؤسسة تسعى إلى إرشاد المقبلين على الزواج وإعطائهم التقنيات والمهارات الأسرية والحياتية التي قد تهدم بعض المثل الدخيلة على التوجه الكوني المبني على الزوجية، ومواكبتها حتى بعد الزواج.
# الخاتمة:
انطلاقا مما سلف في العرض يتبين: *أن الحاجة ملحة لاعتماد الوسائل البديلة لفض النزاعات الأسرية بالنظر إلى واقع التزايد المطرد للملفات المعروضة أمام القضاء، ما يشكل صعوبات لدى هذا الأخير في مسايرة هذا الارتفاع؛ واعتماد الوساطة على وجه الخصوص، وذلك باعتبارها مظهرا من مظاهر عصرنة القضاء، وكذا باعتبارها آلية متناسقة مع آليات الشريعة الإسلامية في التعامل مع الخلافات الزوجية، مرورا باعتبارها ترقى بالقيم الإنسانية الداعية إلى الحوار والإصغاء والتفاوض والنظر بواقعية إلى الحاجيات والمصالح بالشكل الذي يحقق التوازن لدى طرفي العلاقة.
وباعتبار ذلك كله، واعتبارا للمقتضيات الدستورية التي تدعو الدولة إلى العمل على ضمان الحماية الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية للأسرة، بما يضمن وحدتها واستقرارها ، وانسجاما مع الخطاب الملكي الداعي إلى عصرنة الجهاز القضائي، فالمشرع المغربي اليوم أمامه فرصة للحاق بركب اعتماد الوساطة الأسرية كآلية بديلة عن المساطر القضائية لحل النزاعات الاسرية باعتبار التراكم الحاصل اليوم في هذا الجانب، فالدستور المغربي قد ألقى على عاتق الدولة بمكوناتها التشريعية والتنفيذية، العمل على ضمان الحماية الحقوقية والاقتصادية والاجتماعية للأسرة، كما أن الحكومات المتعاقبة قد أدرجت وأشارت إلى ضرورة مأسستها في عدد من برامجها الحكومية، وعملت على تنظيم دورات تكوينية وعقد اتفاقيات شراكة مع منظمات عالمية قصد إيجاد الأرضية المناسبة لمأسستها والعمل بها ببلادنا، بالإضافة إلى مبادرات جمعيات المجتمع المدني التي عمدت إلى ممارستها كحلول مؤقتة يمكن من خلالها إيجاد الحلول للحالات التي تستقبلها بمراكزها، باعتبارها ملجأ للعديد من فئات المجتمع المغربي طلبا للاستشارة والتوجيه، ما مكنها من مراكمة تجربة لا يستهان بها في هذا الباب.
من كل هذه المعطيات، و تثمينا لمختلف المجهودات التي قام بها مختلف المتدخلين في هذا الجانب، من وزارة العدل، الوزارة المكلفة بشؤون الأسرة وجمعيات المجتمع المدني، فإن مأسسة الوساطة الأسرية ببلادنا تحتاج إلى إرادة سياسية، وتنسيق لمختلف هذه المجهودات، وإطلاق حوار وطني، يستدعى له جميع الأطراف و المؤسسات ذات الصلة بشؤون الأسرة، من القطاعات الحكومية والتعليم العالي وخبراء المجال الاقتصادي والاجتماعي، والبحث عن الحلول المطروحة وتوحيد الرؤية من أجل مأسسة ناجحة للوساطة الأسرية ببلادنا، واحتراما للخصوصية المغربية، و تأصيلا لها في ثقافتنا المجتمعية والتعليمية.
ويبقى المجال مفتوحا لمزيد من الدراسات والأبحاث في مجال الوساطة الأسرية وسبل إقرارها في التشريع الأسري، بشكل يجيب بشكل دقيق حول إمكانية اعتماد المقاربات المطبقة حاليا لتسوية النزاع الأسري، وبين إمكانية إنشاء مقاربات خاصة بمجتمعنا اعتمادا على فقه الواقع؛ ومدى استعداد الناس إلى إدماج هذه الوسيلة البديلة لفض نزاعاتهم الأسرية بسرعة وفاعلية.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

أهم المراجع المعتمدة :

* ذ. بنسالم أوديجا / “الوساطة وسيلة من الوسائل البديلة لفض المنازعات ”
* منشورات المركز الدولي للوساطة والتحكيم
* التقرير السنوي حول القضاء الأسري بالمغرب سنة 2014
* ذ.ة زهور الحر/ ” الصلح والوساطة الأسرية في القانون المغربي والقانون المقارن”
مدخل إلى الوساطة التسهيلية في مجال الأسرة،منشورات المعهد العالي للقضاء
مواقع إلكترونية
* د . فريد شكري /”الأسرة بين العدل والفضل”
* نبذة من السيرة الذاتية للكاتب:
* -من مواليد 1963 بالدار البيضاء ( المغرب )
* -عضو اتحاد كتاب المغرب
* -عضو مسؤول لجنة الإرشاد الأسري لدى المركز المغربي للوساطة والتحكيم
* -عضو بالمجلس الإداري للائتلاف الوطني لترشيد الحقل اللغوي
* -عضو مجلس إدارة الاتحاد العربي للثقافة والإبداع
* -كاتب وباحث ومحاضر ومقدم دورات في الوساطة والإرشاد الأسري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى