رئيس فرع المنظمة الدولية لحماية التراث بفلسطين يكتب على هامش مؤتمر ثقافة الصحراء بالمغرب
الميزان/ الرباط: متابعة
almizan.ma
رئيس فرع المنظمة الدولية لحماية التراث بفلسطين يكتب على هامش مؤتمر ثقافة الصحراء بالمغرب
الميزان/ الرباط: متابعة
أ.د عمر عتيق
رئيس فرع المنظمة الدولية لحماية التراث في فلسطين
أنتم رئيس فرع فلسطين للمنظمة الدولية لحماية التراث ، وكانت مشاركتكم في المؤتمر الدولي العلمي الذي نظمته المنظمة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط وازنة. حدثنا عن مشاركتكم التي تركت صدى مهما في الجلسة الافتتاحية ثم عن مداخلتكم بالجلسة المسائية.
نوّهتُ في الجلسة الافتتاحية بالدور الريادي للمنظمة الدولية لحماية التراث انطلاقا من أن التراث الشعبي إرث حضاري إنساني ، يبدأ إقليميا وطنيا ثم يتحول إلى إرث قومي ثم تمتد آفاقه وأهدافه ومخرجاته إلى فضاء إنساني كوني، وأن منظومات القيم العليا في التراث الشعبي الإنساني هي الأكثر قدرة على تحقيق فكر إنساني كوني ، يتجاوز المسافات الجغرافية ، فيغدو العالم كله خريطة ثقافية تتسم بالتنوع الثقافي والتكامل الإنساني ، ويتعالى التراث الشعبي على التعددية اللسانية فيصبح التراث لغة تعبر عن إنسانية الإنسان ، وتتلاشى الفروق العقائدية لتنصهر في خطاب تراثي يؤكد الإرهاصات الثقافية البدئية للإنسانية جمعاء . وحرصت كلمتي الافتتاحية على تعزيز خطاب ثقافي كوني كوزموبوليتي يضمن الخصوصية الثقافية ، ويحرص على وحدة النسيج الفكري الثقافي الذي يتخذ من التراث الإنساني معبرا ووسيلة. ونبهتُ إلى الأنساق الثقافية للصحراء التي تعد المهد الذي تخلقت فيه ثقافة الإنسان ، والحاضنة التي تشكلت فيها ملامح حضارته ، والرحم البيئي الذي ولد منه الإنسان المعاصر بحمولته الثقافية التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة. وأشرتُ إلى أن ثقافة الصحراء تُضمر إشكالياتِ فكرية وقضايا فلسفية تفتح آفاق الحوار حول حزمة من القضايا، وأبرزها قدرة ثقافة الصحراء على إنتاج المعرفة ، وبناء الإنسان، وقبول الآخر وثقافة التعددية.
جاءت مداخلتي في الجلسة المسائية موسومة بـ (البعد الإنساني للصحراء في روايات غسان كنفاني ” رجال في الشمس و ما تبقى لكم ” أنموذجا) ، وأعتقد أن الحديث عن علاقة الصحراء بالبعد الإنساني في روايات غسان كنفاني غير مسبوق على الرغم من كثرة الدراسات التي عرضت لروايات كنفاني. وترمي هذه المداخلة إلى التأكيد أن الصحراء في الخطاب الأدبي ليست فضاء جغرافيا وحسب ، بل إن الصحراء في الخطاب الروائي ركيزة أساسية في المعمار الروائي تتوزع على فضاءات إنسانية تختزل مفاصل القضية الفلسطينية في مرحلتين زمنيتين شهدتا تطورا في وعي الإنسان لتحقيق وجوده الوطني وامتداده القومي والكوني. وتصور الصحراء في رواية “رجال في الشمس” فضاء للخوف والترقب والموت ،إذ تتوهم شخصيات الرواية أن الصحراء اللاهبة المخيفة هي الخلاص الاقتصادي والاجتماعي ، وهي المعبر إلى الحلم الذي ينتظرهم في “جنة الكويت” ويطرح المتن الروائي حزمة من الأسئلة: كيف يمكن العبور من جحيم الصحراء إلى جنة الكويت ؟ كيف يمكن المقامرة بالحياة بهدف الوصول إلى حياة مترفة متخيلة ؟ لماذا استسلمت شخصيات الرواية للموت داخل صهريج المياه الحارق في الصحراء ولم ” يدقوا الخزان ” ؟ . وتجسد الصحراء في رواية ما تبقى لكم فضاء للانعتاق والطهارة والتحرر والانتصار . ومعادلا موضوعيا لأسطرة الشخصية الفلسطينية التي لم يمنعها ظلام الصحراء ووحشتها عن المقاومة والانتصار. ويعزز تحول طبيعة الصحراء في الروايتين العلاقة النفسية بين الأرض ( الصحراء) والإنسان ، فالصحراء ليست مساحة جغرافية رملية منعزلة عن البعدين النفسي والفكري للشخصيات ، قد تكون الصحراء حيزا للموت ، وقد تكون حيزا للتحدي والانتصار.
ما آفاق البحث العلمي في المنظمة الدولية لحماية التراث؟
تتسع آفاق البحث العلمي للمنظمة الدولية لحماية التراث لتشمل تجليات الثقافات الإنسانية أفقيا ورأسيا. ويوظف البحث العلمي في سياق حماية التراث منظومة من المعارف والنظريات والمناهج والفلسفات ، ومن أبرزها الأساطير الشعبية التي تعد قاسما ثقافيا مشتركا ،فليس من السهل فصل النصوص الإبداعية المعاصرة عن الجينات الفكرية الموغلة في القدم ، وما دام النص الإبداعي نتاجا إنسانيا فإن التعالق بين تجليات الثقافة المعاصرة وإرهاصاتها القديمة أمر حتمي . ومن البدهي أن تغيب العلائق الفكرية بين خطاب فكري معاصر وبنية فكرية بدائية(أسطورية) بسبب الفجوة الزمنية وعدم توافر الباحث الماهر في التنقيب في جيولوجيا الفكر البشري. ويعد البحث في أصول الميثولوجيا كشفا عن النسق الثقافي الذي يحكم علاقة الإنسان بالكون. وفي هذا المحو نستحضر رؤية ليفي شترواس الذي تخصص في دراسة الأساطير الإنسانية ، وخلص إلى أن الشعوب تتقاطع في تفكيرها البدئي القائم على الاساطير التي تتوسل بها لتفسير علاقة الإنسان بالطبيعة من حيث رغباته وحاجاته ومخاوفه. ولا شك أن رصد تنوعات العادات والتقاليد في الثقافات الشعبية يسهم في تعزيز التواصل الفكري والاجتماعي بين الشعوب . وأن معاينة اللهجات العربية تُفضي إلى الكشف عن البنية التحتية للثقافات التي تنتمي لها اللهجات ، كما أن دراسة الفنون الشعبية ( الغناء والرقص والألعاب الشعبية وغيرها ) تحقق تقاربا بين الثقافات ، وتسهم في تشكيل ثقافة إنسانية متكاملة ومنفتحة.
ما أهمية عضوية فلسطين التي تمثلونها بالمنظمة الدولية لحماية التراث على مستوى البحث العلمي في التراث؟
يشكل التراث الشعبي الفلسطيني نسيجا متنوعا ومتناغما ومتكاملا يتوزع على الأشكال التراثية المادية والأدبية الفنية ، ويعبر النسيج كله عن علاقة الإنسان بالمكان (الوطن ) ، ويجسد الهوية الوطنية التي تميزه عن غيره من المجتمعات. وتعزز عضوية فلسطين في المنظمة الدولية لحماية التراث الأبعاد الوطنية والإنسانية للتراث الشعبي الفلسطيني. والتراث هوية وطنية قومية ، وكينونة تجسد ارتباطنا بالأرض والتاريخ ، ويشكل دليلا قاطعا على أن حقنا التاريخي في فلسطين عقيدة لا يرتقي إليها شك ، ولا يؤثر فيها تزوير السياسي . ولا مزاعم توراتية . أستطيع أن أقرر – وأنا مطمئن- أن الشعوب والأمم التي تملك تراثا عريقا يُكتب لها البقاء على الرغم من انحسار المقومات الاقتصادية وسوء البنية التحتية وضعف القوة العسكرية ، وأما الشعوب والأمم التي لا تملك تراثا عريقا فهي إلى زوال وإن تعاظمت قدراتها الاقتصادية والعسكرية ، فالحضارة ليست ناطحات سحاب ولا مصانع لإنتاج الأسلحة المدمرة ، ولا ثورة تكنولوجية ، فكل هذه الانجازات آنية لا يمكن أن تصمد أمام حركة التاريخ ، أما الحضارة الباقية فيضمن بقاءها تراث الأمة وتاريخها.
أدرك الصهاينة أهمية التراث في البقاء فعمدوا للسطو على تراثنا الفلسطيني ، فلم يسرقوا الأرض فحسب بل سرقوا التاريخ ، سرقوا جزءا من التراث … لبسوا ملابسنا التراثية في مناسبات عدة ، وادعوا أنها توراتية ، سرقوا الأواني الفخارية والنحاسية وافتتحوا بها متاحف زاعمين أنها تخلد وجودهم على الأرض ، سرقوا مأكولاتنا الشعبية وادعوا أنها من تراثهم … ولماذا نستغرب من هذه السرقات التي تجري جهارا نهارا ونحن نعلم أنهم سطوا على لغتنا كما سطوا على اللغات الأوروبية لأن اللغة العبرية في حقيقتها لغة توراتية ضحلة لا تستجيب لمقتضيات الحياة المعاصرة . كيف يمكن أن تبقى دولة بلا تاريخ وتراث؟ إن شجرة زيتون واحدة في فلسطين أطول عمرا من عمر دولة الاحتلال ، وإن حجرا واحدا في بناء أثري يختزل حكايات الأجداد أصدق من الرواية الصهيونية كلها .
كيف تقيم تنظيم المنظمة الدولية لحماية التراث لهذا الحدث العلمي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط؟
يطيب بي أن أثمن عاليا جهود كل الذين أسهموا في التخطيط والإعداد والتنفيذ لفعاليات مؤتمر (ثقافة الصحراء جمالية وعمق إنساني ). والدور الريادي للمملكة المغربية في تعزيز ثقافة الصحراء في إفريقيا خاصة ، والعالم عامة ، وذلك عبر استراتيجية ثقافية منهجية منظمة بوساطة مؤسساتها الرسمية والأهلية وخاصة المنظمة الدولية لحماية التراث التي تبذل جهودا لافتة طيبة جبارة استثنائية في تعزيز ثقافة الصحراء وتسويقها علميا اعتمادا على كوكبة من الباحثين الأكاديميين الذين سخروا أقلامهم لخدمة ثقافة الصحراء.
ما مشاريع البحث التي تقترحونها والآفاق العلمية مع المنظمة الدولية لحماية التراث راعية المؤتمر؟
أتمنى أن تتجه مشاريع البحث العلمي للمنظمة الدولية لحماية التراث نحو تعزيز منظومات القيم العليا التي تحقق التقارب الثقافي ، والتكامل الحضاري ، وإذابة الفروق العرقية والدينية واللسانية والجغرافية ، وأعتقد أن هذا الهدف السامي يتحقق بحزمة من المشاريع الثقافية ، ومنها :
1.إعادة صياغة مفهوم ثنائية المركز والهامش ، فلا يجوز أن تبقى بعض الثقافات الشعبية هامشية لا دور لها على المسرح الثقافي الإنساني ، إذ إن كثيرا من الثقافات الشعبية تعاني من الإهمال والتناسي لأسباب عرقية أو دينية على الرغم من أن الأبعاد الإنسانية للثقافات الشعبية المهمشة لا تقل أهمية عن الثقافات الشعبية التي تشغل مركز الصدارة في البحث العلمي.
2.رصد القواسم الفكرية في الموروث الشعبي بين الشعوب والأمم ، لأن القاسم التراثي المشترك يحقق التقارب بين الشعوب ، ويسهم في تعزيز تقبّل الآخر ، ويعزز التعاون الثقافي ، ويرسخ التواصل والاتصال في العلاقات الاجتماعية . والقواسم التراثية الإنسانية كثيرة ، نحو ” عشتار” وألقابها التي بلغت ثلاثمائة لقب في الفكر الإنساني ؛فهي (عشتار) البابلية ، و(إنانا) السومرية ،و(إيزيس)المصرية،و(أنايتيس)الأشورية،و(عناة) الكنعانية،و(عشيرة/أثيرة)الفينيقية،و(عشتروت)العبرية،و(أفروديت)الإغريقية،و(فينوس)الرومانية ،و(أناهيد)الفارسية،و(كالي) الهندية، و(العزى / الزُهرة) العربية .
3. إجراء دراسات مقارنة بين اللهجات العربية لمعالجة إشكالية الاختلافات الدلالية للألفاظ بين اللهجات ، وخاصة أن كثيرا من الألفاظ في اللهجات العربية تسبب حرجا اجتماعيا من قطر عربي إلى قطر آخر .
4.معاينة التعالق بين الموروث الشعبي والدين بهدف الفصل بين الموروث الشعبي والعقائدي.
5. تأصيل العادات والتقاليد لتعزيز ما يثري العلاقات الاجتماعية ، ورفض ما يسبب الضمور والانغلاق والنفور في العلاقات الاجتماعية.