almizan.ma
لام الجحود وعبقرية اللغة العربية
الميزان/ الرباط: فسحة لغوية
لامُ الجحودِ هى لامٌ مكسورةٌ تدخلُ على الجملة الفعليَّة فتقومُ بنفيها، وتكونُ مسبوقةً بـ”ما كان، لم يكن”، وهى من حروف المعانى التى قدرتها بعض اللغويين بنحو 80 حرفا.
لكن “لام الجحود” ليست مجرد “لام” تشارك فى نفى حدوث الفعل (دلاليا) و”نصبه” (نحويا) سواء بأن المضمرة على رأى البصريين أو بنفسها على رأى الكوفيين.
كما أن وظيفتها البلاغية لا تتوقف عند حدود “شدة النفى والإنكار” بحسب ما قررته التعليلات المدرسية التقليدية.
بل هى “وحدها” أسلوب بلاغى “مستقل” يتجاوز مدلوله “شدة نفى الفعل” لنفى الرغبة أو النية فيه.. الأمر الذى يبنى جانبا نفسيا أو سلوكيا أو فكريا من جوانب شخصية الفاعل.
أنت ـ مثلا ـ جرب تقدير الفارق بين قولك: “ما كان ليتصدق سعيد”.. وقولك: “ما تصدق سعيد”.؟
هل الثانية أكثر بلاغة من الأولى؟
لماذا؟؟
لأن الجملة الأولى تنفى مع الفعل “إرادة القيام به”، فتبنى شخصية الفاعل بخيلة.. بينما تقتصر الجملة الثانية على نفى الفعل فقط.
وطبعا نفى الفعل لا يعنى بالضرورة نفى إرادة القيام به.. ومن ثمّ تبقى شخصية الفاعل مجهولة..
بمعنى أن عدم تصدق سعيد قد يكون ناجما عن 100 سبب آخر غير البخل.. أما مع لام الجحود فلن يفهم السبب إلا على أنه البخل.
وبالتأكيد.. فمادامت هذه “اللام” أسلوبا بلاغيا متسما بالقوة فإن النص المهيمن (القرآن العظيم) لن يتركه دون أن يغزل به بعض جدائله اللغوية الراقية، لنستمتع بها فى أقصى حدوده البلاغية، وهذا ما نجده فى (20) آية كريمة، جاءت لام الجحود فى 17 منها تالية لصيغة الماضى التقريرى “ما كان”، و3 تالية لصيغة المضارع التصويرى “لم يكن”، ولم “أكن”.
ومن هذه النماذج:
1ـ لام الجحود بعد الماضى: {وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله} (الأعراف: 43). الصياغة هنا تبنى مضمونا اعترافيا يزاوج بين التقرير والتصوير، الأول يؤديه الماضى الذى يفيد ثبوت الحدث “كنا”، والثانى يؤديه المضارع “نهتدى” الذى يفيد التجدد والاستمرارية، بما يقطع بضعف الإنسان وحاجته “الدائمة” لخالقه، حيث لا يمكنه الاستغناء عن معيته وتوفيقه، فالحياة دون الله تيه مظلم، والله نورها، وهو الذى يبادر عباده بالجميل، هنا يأتى دور “لام الجحود” “لتغلق” هذا المدلول بتأكيده قطعيا.
2ـ لام الجحود بعد المضارع : {قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون} (الحجر: 33)، لام الجحود تتوسط مضارعين لتتغلب الصياغة التصويرية على المشهد، فتتجاوز “لام الجحود” التقرير إلى التصوير، حيث تكشف الجانب النفسى لشخصية أبليس منطوية على الكبر والإحساس المتضخم بالذات، ومن ثمّ استحق عقاب الله له.
إنه مجرد حرف..
لكنه يبنى من الخلفيات ويضع من الدلالات ما يحتاج إلى جمل كثيرة
فى أى لغة أخرى
غير “العربية” “الذكية”