الفقه والشريعةقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ

الميزان/ الرباط: بقلم/أ. عبده معروف

almizan.ma

*وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦۚ*
الميزان/ الرباط: بقلم/أ. عبده معروف
لم يكن الإنسان يومًا سوى صفحة مفتوحة تُدوّن عليها أعماله، بين سطورٍ من الخير وأخرى من التقصير، بين ومضاتٍ من الصدق وشوائب من الزلل؛ فالعقل يسيّر، والروح تحلم، ولكن القلب وحده يعرف السبيل، فإن تزكّى كان كالنهر الصافي الذي يُغسل فيه تعب الأيام، وإن أظلم بات كالأرض الجرداء، لا ماء يسقيها ولا شمس تدفئها، قال الله: *”…وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفۡسِهِۦ”*ۚ وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلۡمَصِيرُ(18)” (سورة فَاطِر)، وقال سبحانه: *”قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا(9)”* (سورة الشَّمْس)؛ فالتزكية ليست مجرد تطهيرٍ للنفس من أدرانها فقط، بل هي إعادة بناءٍ للإنسان من داخله، هي تلك اليد التي تمتد إلى القلب في اللحظة التي كاد فيها أن يضيع، فتأخذ بزمامه إلى النور، إلى الطمأنينة، إلى ما يليق بكرامته التي نفخ الله فيها من روحه؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: *((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم))؛* فالتزكيّة ليست لباسًا يُرتدى في لحظة نفاق، بل هي صفاءٌ يسري في العروق، ونورٌ يشعّ من الضمير، وهي ارتقاء بالروح، وتنقية للنفس من شوائب الغرور والأنانية والحقد، تمامًا كما يُنقّى الذهب من شوائبه ليبرق في عيون الناظرين؛ فيا ابن التراب، اعلم أن كل لحظة تزكِّي فيها نفسك، إنما تُطهر قلبك من أدران الدنيا، وتُصلح حالك مع الله والخلق، وتُنير طريقك وسط ظلام القلق والتكالب على الدنيا، في زمن باتت فيه القلوب تُباع وتشترى، والنفوس تتعفّن بأمراض الكبر والحسد والجشع والأنانية، والأجسام للإستعراضات، والملابس للشهرة والخيلاء؛ فالتزكّي ليس للمجتمع، ولا لنيل الثناء، بل هو هدية تُهديها لنفسك، فترتقي بها، وتحرّرها من أسر الشهوات، وتُعيد لها فطرتها الأولى التي خُلقت على حب الخير والحلال، وبغض الشر والحرام؛ عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: *((إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).* متفق عليه؛ فكم نحتاج إلى تزكية صادقة في هذا العصر المزدحم بالمظاهر والخواء، عصر تحوّل فيه الإنسان إلى كائن متعب يبحث عن السكينة في السراب، ولو أن كل امرئ بدأ بتزكية نفسه، لما عرف المجتمع خصامًا، ولا سالت دماء المظلومين تحت أقدام المتكبرين، وكم من نفسٍ سارت في دروبٍ ملتوية، تبحث عن الراحة في سرابٍ، وترى في الماديات عزًّا بينما هو قيدٌ يحيط بها، وكم من قلبٍ رأى في التزكية سبيلاً إلى الحرية، حرية من شهواتٍ لا تنتهي، ومن جشعٍ لا يعرف حداً، ومن قلقٍ يسرق السكينة دون رحمة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: *((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع؛ ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع؛ ومن دعوة لا يستجاب لها)).* رواه مسلم. والمتزكّي كغصنٍ أخضر في أرضٍ يابسة، يعكس الحياة في موطنٍ نضب ماؤه، فلا يغترّ بما لديه، ولا يرى في علوّه تفوّقًا على غيره، بل يسير متواضعًا، كأنما يحمل على كتفيه رسالةً قديمة، تلك التي نزل بها الوحي، والتي لم تكن إلا دعوةً للإنسان بأن يرى نفسه كما ينبغي له أن يكون، لا كما يصوّره له غروره؛ فما أجمل أن يُدرك المرء أن تزكيته لنفسه ليست هبة يمنحها للناس، بل هي نافذةٌ إلى سعادته، وطريقٌ إلى حقيقة ذاته، فإنّ من تزكّى فإنّما يتزكّى لنفسه، إذ لا يستقيم ظلٌّ إن كان عوده أعوج، ولا يشرق النور على قلبٍ ملؤه الغبار؛ فتزكَّوا، فإن الحياة قصيرةٌ، والروح أجمل حين تكون طاهرة؛.. عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أباه حصينا كلمتين يدعو بهما: *((اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي)).* رواه الترمذي، وقال: (حديث حسن). فالتزكية صفاء القلب طمأنينة الروح؛ فتزكَّ يابن التراب؛ فإن الله لا يُضيع جهدًا نقيًا، ولا عملًا خالصًا، واذكر أن زكاة النفس هي أثمن استثمار في زمن تُباع فيه الأرواح بثمن بخس، تزكَّ، فالحياة لا تطيب إلا بنقاء القلب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى