صوت الحكمة وسط ضجيج الحياة
الميزان/ الرباط: بقلم/أ. عبده معروف
في عالمٍ يموج بالصخب، حيث تتصارع الأصوات، ويتسابق الناس في الحديث أكثر من الإصغاء، يبقى النجاح الحقيقي فنًا لا يتقنه إلا القليلون؛ أولئك الذين يدركون أن الكلام ليس زينةً تُلقيها الرياح، بل مسؤوليةٌ تُلقى على العقول، وما أشد ما يحتاجه هذا الزمان إلى رجل يعرف متى يتكلم، ومتى يصمت، متى يُنصت، ومتى يُحسن الإصغاء! قال الله تعالى: “وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُۚ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ يَنزَغُ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلۡإِنسَٰنِ عَدُوّٗا مُّبِينٗا(53)” (سورة الإسْرَاء)؛ فالناجح، في حقيقته، ليس من كثر كلامه، ولا من رفع صوته في الجمع، بل هو الذي يدرك أن الكلمة سلاح، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من خطبٍ تُلقى، وأحكم من كتبٍ تُكتب؛ فالإنسان الناجح يشبه النهر العميق؛ لا يُسمع له جلبة، لكن خيره يغمر الأرض من حوله، وهو الذي يغلق فمه حين يعلم أن الصمت وقار، ويفتح أذنيه حين يدرك أن الإصغاء فنّ لا يُتقنه إلا الكبار.. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، *فليقل خيرا أو ليصمت* )). متفق عليه. وما أروع ذاك الذي يسمع بقلبه قبل أذنه، ويزن كلمته قبل أن تسقط من شَفَته، فإن وجد فيها نفعًا نطق، وإن خشي ضررها صمت؛ في هذا الحديث: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات، وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب”؛ فقد يتحدث كثيرون، لكن كم من هؤلاء ينصتون؟ وكم من الذين يملؤون المجالس بالكلمات يدركون أن الصمت أحيانًا يكون أبلغ من الكلام؟ إن الإنسان الحكيم، قبل أن يفكر في حديثه، يزن كلماته في ميزان العقل، ويقيس وقعها في قلب مستمعيه، وكم من فرصةٍ ضاعت لأن أحدهم تحدث قبل أن يصغي؟ وكم من علاقاتٍ انهارت لأن الكلام سبق الفهم؟ كم من خلافٍ كان يمكن أن يُحل بكلمةٍ هادئة، لولا أن العجلة دفعت صاحبها ليطلق رأيًا قبل أن يسمع الطرف الآخر؟.. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ قال: ((من سلم المسلمون من لسانه ويده)). متفق عليه.
إن في العالم كثيرًا من المتكلمين، لكن القليل من السامعين؛ فالناجح ليس من غلب الناس بلسانه، بل من كسب قلوبهم بفطنته، وجعلهم يصغون له لا لأنه يرفع صوته، بل لأنه يملأ كلماته بالصدق، ويترك لصمته أثرًا؛ فالنجاح ليس في كثرة الحديث، بل في حسن الإصغاء؛ فهو في تلك اللحظات التي يقف فيها الإنسان متأملًا، قبل أن يلقي بكلمةٍ قد تفتح بابًا أو تهدم جسرًا، وهو في إدراك أن الصمت حكمةٌ متى جاء في موضعه، وأنه ليس ضعفًا كما يظن البعض، بل هو فنٌ لا يتقنه إلا العقلاء؛ …عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)). متفق عليه. فإن أردت أن تكون ممن يُصغي إليهم الناس، فتعلم أولًا كيف تُنصت إليهم، وإن رغبت في أن تكون كلماتك مؤثرة، فاجعلها تأتي بعد صمتٍ فهمت فيه ما يُقال، قبل أن تجيب، وليتنا نتعلم أن الفم الذي يعرف متى يُغلق، هو الفم الذي تُفتح له القلوب حين يتكلم، وأن ما تلفظ من قول مسجل لك أو عليك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، قال الله تعالى: “يَوۡمَ يَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعٗا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوٓاْۚ *أحۡصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ*ۚ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ شَهِيدٌ(6)” (سورة المجَادلة).