السياسيةقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

اُقْتولْهُمْ”.. من وحي الذاكرة

الميزان/ مكناس: ذ. عزيز معيفي

almizan.ma

“اُقْتولْهُمْ”.. من وحي الذاكرة
الميزان/ مكناس: ذ. عزيز معيفي
أحيانا يقتحم علي مقطع من الذكريات خلوتي. لا يستأذن يطالب بأحقيته في أن يتصدر الشريط بحلوه ومره.
أقاوم هذا الاقتحام، حسب ما تُمليه علي النزعة الشرقية التي ابتليت بها، وربما ابتلي بها جيلي، والاجيال السابقة عليه.
النزعة الشرقية هي نزعة الإحجام حيث يجب الإقدام. تغلفها بغلاف ايديولوجي أخلاقي، يُفضي دائما إلى التراجع عن ممارسة الموقف السديد..
تمثلت “نزعتي الشرقية” في عدم مهاجمة أهل التعليم، وفاء لذكراهم، ولما أسدوه من خدمات للمساهمة في رصّ جدران هذا البناء المتهالك الذي نسميه دائما ـ وكيفما كانت احواله ـ وطنا!!..
ناس وأهل التعليم، هم من قام بتعليمنا وتربيتنا، بما أوتوا من معرفة – على قلتها – قد تفي بالغرض !!.. إنهم من جعلنا نعتمد على انفسنا لكي نكون حاضرين عند نداء تجارب الحياة.. وكان الثمن أحيانا أصنافا وضروبا من المعاملة التي لا تمت بأية صلة للتربية الحديثة، وديدنها صون الكرامة، واحترام السلامة الجسدية والروحية، وضمان المساواة..
المعلم كان في الأغلب عريفا، وترسم وترقى إلى ان بلغ ما بلغه، فأصبح قائما علينا ونحن أطفالا.. قد يعاملنا بلطف ولين، وقد “يدق” لحمنا وعظامنا، ويسلخ جلودنا، ليأتي الأب في الأخير ويدفن ما تبقى منا. لذا كانوا يقولون، وفي كثير من الأحيان ما يفعلون، باستثناء الدفن، لأن أموره قد تتعقد، وقد تفضي إلى السجن.
أحد هؤلاء في مدرسة (القنارية) بمراكش، أطلق عليه الصبية الشياطين لقب: “اُقْتولْهُمْ”!! كان عريفا، وتسرب لسلك التعليم.. حافظ على هيئة العرفاء من جلباب يُذكّر بأهل البادية، و”بلغة” سميكة النعل، صفراء اللون مهترئة.. وسحنة تعلمك أنه من بدو دكالة أو عبدة… تحسبه ما أن تراه إما مقبلاً من الحقول أو مدبرا عن زريبة.. هكذا يكون قد تواجد بالخطأ حيث لا يجب… تواجد في مدينة مراكش، وألفى نفسه يُدرّس في حومة من أعرق حوماتها.. اما تلاميذه / ضحاياه، فأقلهم حظا استفاد من بركاته بعاهة مستديمة في الورك، ورث عنها عرجا ألم به منذ الطفولة!!..
كنا نعيش ألوان الرعب والخوف، ولا نقوى على التشكي لآبائنا لئلا يقصدوه، ويشددوا على استعدادهم لدفننا إن سلخنا..
لا أدري هل للخوف ألوان؟ كنا نعلم جيدا أن للرعب حركات ملازمة كالرعاد، وبرودة وارتفاع الحرارة، واصطكاك الأسنان، والتبول اللاإرادي، ولكن لم نكن نعلم أن له لونا أزرق، حين يغشى الأبصار، وربما يكون له أحيانا لون أصفر أو رمادي. أما اللون الأسود فيعود دليلا على وضعية الرقاد في سرير بالمستشفى بعد كسر، أو ضرر صعب الشفاء..
“اُقْتولْهُمْ” هذا جعلنا، رغم هشاشتنا، ونحن تقبع في سنواتنا الثمانية، ندرك معنى ألوان الخوف. لأننا قبل دخول الفصل اثناء حصته، يجف الحلق، وتنطفئ العيون.. ومنا من يذرف دموعا لا ندري سببها: أهو رجاء أم استسلام للمصير المجهول، او رُهاب مستكين؟
كل شيء كان ممكنا أمام هذا البدوي الآتي من “الآفاق” للانتقام من ابناء المدينة “المحظوظين”.. ولعله كان يستكثر علينا أننا نقيم في منازل فخمة رغم الحياة المتقشفة التي كنا نحياها.. يستكثر علينا توفر بيوتنا على الكهرباء والماء..
وهي امتيازات خلو البادية منها أحيانا – لا يجعل منها سجونا ـ لقد ابان المستقبل أن هذه الامتيازات لها علاقة بسياسات عمومية تروم بناء الأوطان لا تخريبها!!..
“اُقْتولْهُمْ” كان يجسد حالة متقدمة من المرض النفسي. فقد كان يجلس وراء مكتبه ويأمرنا ب “دق” بصرنا على صفحة التلاوة!!! وويل.. ثم ويل.. لمن يرفع بصره، ويراه واكتافه تهتز، وما يبدو من جسمه من وراء المكتب يقفز بحركات نزقة سريعة، شبيهة بحركات الباحث من الاغتلام.. مرة، رفعت راسي ورأيته، لكنه رآني، فاهتزت أحشائي!!..
بعد أن انتشي، وأنهى مهمته من المتعة، وقام بالتخلص مما فاض منه، نادى علي.. وقفت مرتعشا أمامه، فأرغمني على الانحناء، ووضع رأسي بين رجليه، والتقط مسطرة خشبية قصيرة.. جمع عليها قبضته ليظهر منها نصفها، وراح ينقر ظهري بعنف دون أي اهتمام بما يمكن أن تسببه هذه الضربات من كسر للأضلع أو الفقرات.. لم يهتم البتة..
قال: لماذا رفعت عينيك عن التلاوة؟ في المرة المقبلة سأمزقك!
لا ادري كيف تمالكت نفسي، وسرت بخطوات متعثرة منحنيا، كأني بلغت من العمر عتيا.. وتعايشت مع أضراري وخوفي لما تبقى من حياتي البئيسة..
بعض الفتيات كن يدرسن معنا.. وقد كانت هيئتهن أشبه بهيئة الأولاد في هذه السن المبكرة.. وبحكم عدم تميز لباسهن باي مظاهر انثوية تذكر، فلم يكن فيهن شيئا مثيرا، باستثناء ابنة أحد المدرسين بنفس المدرسة.. فهي مستديرة في كل شيء، ووجهها أيضا كانا مستديرا ومكتنزا..
جاءت لتنضم لقسمنا، واكتشف “اُقْتُولْهُم” أنها ملك يمينه! فدأب على المناداة عليها، واجلاسها فوق حجره وراء المكتب.. والبقية تأتي!!..
لا أحد يقوى على رفع بصره، ومتابعة المشهد.. وصاحبنا كان يمارس شذوذه في وضح النهار، غير عابئ بوالدها، وما يمكن أن يفعله حين يتناهى إلى علمه ان ابنته ضحية “للواط مستدام “!!..
وفعلا أُبلغ الأب، فاشتبك مع المعتدي “الشاذ”، وتلاكما وتمزقت الثياب، ثم هدأت النفوس، واختفت زميلتنا!!..
توالت الأيام، و”الشاذ” بقي “شاذا”، وبقينا نحن مرغمين على “دق” أبصارنا في صفحات التلاوة إلى أن ينتهي من رغباته المجنونة، ويسمح لنا بإراحة اعناقنا المتعبة من فرط طأطأة الرؤوس..
في صبيحة مشؤومة سقطت ضحية منا بين يدي الذئب المسعور.. كان الطفل المقصود مرحا، سريع الحركة، خفيف الظل.. التقطه بكل قوته، ورما به تحث
قدميه، وراح يرفس، وكأنه صانع فخار يعجن الطين الذي يشتغل به.. الفرق هو أن صانع الفخار يصنع تحفا، أما هو فكان يخرب إنسانا..
بعد أن أشبع عدوانيته، تركه يزحف إلى مكانه.. وتوعده بالمزيد..
بعد فترة قصيرة على الحادث المشؤوم، غادر “الشاذ” القاعة قاصدا قاعة درس أخرى، ليلتقي بمعلمة كان يروج حولها ما يروج من ابتهاجها باقتراب الذكور منها، لتتمكن من إطلاق أريج الأنوثة عليهم، والاستمتاع بتهييجهم، وهذا ما كان يحصل مع صاحبنا..
استغل الطفل المعذب الفرصة، وقام بمخاطبتنا، ودعوتنا لما كنا نستطيعه ضد هذا الطاغية: أي الدعاء عليه.. رفعنا أكف الضراعة إلى الله، وأطلنا في الرد على دعوات صديقنا..
ـ الله يكسر عظامه..
ـ آمين..
وبالفعل حدثت المصادفة، وكان الجو مطيرا، فتعثر “الوحش” في الدرج وسقط، وانكسرت ساقه!!..
اختلطت أحاسيس الفرح بالخوف.. فبقدر ابتهاجنا لان صديقنا أشفى غليله، انزعجنا لما سيأتي بعد شفاء “الشاذ”، وعلمه أننا دعونا عليه!!..
مجموعة صغيرة منا، أبدت الاستعداد لعيادته في بيته، تقربا منه، واتقاء لبطشه!!! أمرونا بضرورة المساهمة بـ “عشرين سنتيم” لشراء قالبين من السكر، وزيارة “الاستاذ” في بيته لنيل رضاه..
بعضنا أبدى استنكاره، ورفضه القاطع، لأننا أمام حالة معتد متجبر نال عقابا إلاهيا!! أغلبنا ركن إلى الصمت، وانتظر ما سيفضي إليه الجدال الخطير.. فقد ترفع لائحة بأسماء كل الرافضين إلى أنظار الاستاذ. وربما سينال كل واحد نصيبه من “الإنتقام”..
استماتت المجموعة الموالية “للأستاذ” في الدفاع عما اسموه “اقتراحا”. وعللوا قولهم بأن الاستاذ يحكم فينا، ومن حقه أن يفعل بنا ما يشاء، ولا حول لنا ولا قوة في الأمر!!.. ليس أمامنا إلا أن نحضر المساهمة المالية، وهم سيحظون بشرف تمثيل القسم، وإبداء المزيد من التقرب والتزلف.. وربما نالوا الحظوة أكثر، وتمكنوا من الانتقال إلى المستوى الأعلى.. أما الرافضون فسينتظرهم العذاب الأليم، وكذا ” السقوط الأليم”.. مر أسبوع، ونحن نأتمر فيما سنفعل، وفي الأخير انتصر صوت الخضوع والخنوع والقبول بالأمر الواقع!!..
أحضرنا قطعنا النقدية.. بعضنا بصق عليها قبل تقديمها. شترى سفراء الشؤم قالبي سكر، وقصدوا المعلم لإتمام “مهمتهم”..
ومرت الأيام، وعاد “الشاذ” إلى عمله، وداوم على اعتداءاته.. كما عدنا إلى طأطأة رؤوسنا، و”دقّ” أبصارنا في صفحات التلاوة.. وربما جاء أطفال بعدنا، وتعرضوا لحصتهم من الشقاء، والتعايش مع الشذوذ والأمراض النفسية التي طوقت البعض، وجعلته مفسدا في الأرض..
عزیز معيفي
مكناس 07 / 06 / 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى