العجز الأخلاقي أخطر من العجز الاقتصادي
الميزان/ الرباط : بقلم/أ. عبده معروف
ما أعظم الجرح حين يكون غير مرئي، وما أقسى النزف حين لا يسيل دماً، بل يغرق القلوب في ظلمات الخيانة والغدر! ليس الفقر الذي يهدم الأمم، ولا العجز الاقتصادي الذي يفتك بالشعوب، وإنما ذاك العجز الذي يزحف على الأرواح في غفلة، يلوث الضمائر، ويبدد القيم النبيلة كما تبدد الرياح ورق الخريف، فتغدو المجتمعات كأشجار ميتة، لا ثمر فيها ولا ظل، قال الله: ” ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمۡ يَكُ مُغَيِّرٗا نِّعۡمَةً أَنۡعَمَهَا عَلَىٰ قَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ علِيمٞ”(سورة الأنفَال)، وفي زمنٍ تتسارع فيه الخطى نحو التقدّم المادي، وتتنافس الأمم في ميادين الاقتصاد والتكنولوجيا، يظلّ العجز الأخلاقي الخطر الأكبر الذي يهدّد كيان المجتمعات، ويقوّض أركان الدول، فإذا انهارت القيم، وتفكّكت المبادئ، لم تُجدِ الأموال ولا المصانع، ولم تُغنِ الثروات ولا الموارد..
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا)). رواه البخاري.
فالفساد الاقتصادي ليس سوى ثمرة مُرّة لشجرةٍ جذورها في التربة الأخلاقية الملوّثة؛ فحين يغيب الضمير، وتُستباح الأمانة، ويُقدّم الهوى على الحق، تتفشّى الرشوة، وتُهدر الموارد، ويُستغلّ النفوذ، وقد قال الله تعالى: “ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ(41)” (سورة الرُّوم)، إشارةً إلى أنّ الفساد في الأرض نتيجةٌ مباشرةٌ لأفعال البشر وانحرافاتهم الأخلاقية، وفي الحديث.. عن خولة بنت عامر الأنصارية وهي امرأة حمزة رضي الله عنه وعنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة)). رواه البخاري. فالقيم الأخلاقية ليست زخرفاً اجتماعياً، وليست ترفاً يُذكر في الخطابات الحالمة، بل هي عماد الدول، وروح الشعوب، فإن ضعفت، انحنى ظهر الوطن، وتهدمت أركانه، حتى لا يكاد يميز بين النور والظلام؛ فأمةً يخون فيها الأخ أخاه، ويغدر فيها الصديق بصديقه، ويتقاتل الكبار بسبب مشاكل الصغار، وتقف قبيلة في وجه قبيلة نصرة لقاتل وغادر وفاجر، وتُباع فيها الأمانة كما تباع السلع الرخيصة، هي أمة تقف على شفا الانهيار، مهما انتفخت حساباتها المصرفية وتعالت ناطحات سحابها، قال صلى الله عليه وسلم: ((بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) وقال ـ أيضا ـ: ((أَدبني ربي فأَحسن تأديِبِي)). وقال الله عن نبيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. ، وقال الشاعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فما نفع الاقتصاد إذا كان مبنياً على الغش؟ وما جدوى الثروة إذا كانت أكواماً من أموالٍ تحصدها يدٌ ملوثة بالخيانة؟ المال بلا أخلاق كالرياح الهوجاء، تهدم ولا تبني، تُفسد ولا تصلح، فلا يغرنّكم بريق الأرقام ونمو الأسواق، فالأمم لا تنهض بعظمة الجدران، بل بعظمة النفوس! قال الشاعر: صلاح أمرك للأخلاق مرجعه.. فقوم النفس بالأخلاق تستقم، …ولذا فإن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من طاولات الخبراء الاقتصاديين، ولا من تقارير السوق العالمية، بل يبدأ من القلوب.. من الضمائر التي تستيقظ من سبات الفساد، من النفوس التي تصحو من غفلتها لتعيد حساباتها مع ذاتها قبل أن تحاسب المجتمع والدولة، قال الله: “…ِۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ …ٍ(11)” (سورة الرَّعْد) هي القاعدة الربانية التي لا تخطئ، وهي القانون الذي لا يسقط بالتقادم؛ فلتكن ثورة التغيير أخلاقية قبل أن تكون اقتصادية، ولنرفع راية القيم قبل أن ننادي بإصلاح الأرقام، فما فائدة الإصلاح إذا كان أساسه متعفناً؟ قال الله: “۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ(90)” (سورة النَّحْل)، ولا يمكن لمجتمعٍ أن ينهض اقتصاديًا دون أن يُصلح أفراده أنفسهم أخلاقيًا؛ فالتغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، من النفس التي تُزكّى، والضمير الذي يُحيى، قال الشاعر : إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقلْ …خلوتُ ولكنْ قلْ عليَّ رقيبُ، …ولا تحسبنَّ اللهَ يغفلُ ساعةً … ولا أنَّ ما تخفيه عنه يغيبُ، ..فالعجز الأخلاقي هو أصل كل فساد، ومصدر كل خلل، فإذا أردنا إصلاحًا حقيقيًا، فعلينا أن نبدأ بأنفسنا، نُطهر قلوبنا، ونُهذب سلوكنا، ونتخلق بأخلاق الإسلام السمحة؛ فبذلك نُعيد لمجتمعاتنا عافيتها، ونُحصنها من كل شر وفساد، قال الله: “وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ(18)” (سورة لقمَان)؛ فبناء مجتمعٍ مزدهرٍ اقتصاديًا لا يمكن أن يتحقّق دون ترسيخ القيم الأخلاقية في نفوس أفراده؛ فالأخلاق هي الحصن المنيع الذي يحمي الأمم من الانهيار، وهي النور الذي يهديها في دروب التنمية والازدهار، قال الله: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ(11)” (سورة البَقَرَة)، …عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به)). رواه مسلم. ويقول الشاعر: تموتُ الأسدُ في الغاباتِ جوعًا …ولحمُ الضأنِ تأكلهُ الكلابُ … وقردٌ قد ينامُ على حريرٍ … وذو عِلمٍ مفارشُهُ الترابُ، …إذن، هل نملك الشجاعة كي نبدأ؟ هل نتحلى بالصدق كي نواجه أنفسنا قبل أن نواجه العالم؟ إن معركة الأخلاق هي أعظم معركة تخوضها الأمم، فإما أن تنتصر فتنهض كطائر العنقاء من الرماد، وإما أن تنهزم فتغدو كأطلالٍ لا تروي سوى تاريخ السقوط! فلنُعِدّ بناء ذواتنا، ولنُصلِح أخلاقنا، لنكون لبناتٍ صالحةً في صرح أمتنا العظيمة.