الفقه والشريعةالقانــونقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

العلوم الإنسانية وسوق العمل العلوم الإنسانية وسوق العمل

الميزان/ الرباط: ذ.زهور كرام

almizan.ma

العلوم الإنسانية وسوق العمل
العلوم الإنسانية وسوق العمل
الميزان/ الرباط: ذ.زهور كرام*
منذ انخراط الجامعة المغربية فيما يسمى بـ” الإصلاح البيداغوجي”، طُرحت فكرة انفتاح الجامعة على المحيط. بدأ الإصلاح بالتركيز على تنظيم التكوين الأكاديمي وتحديث المناهج التكوينية، وإنشاء هيئات للتقييم الجامعي والبحث العلمي، ثم تبني ميثاق التعليم العالي، والاهتمام بمناهج التعليم وبالعلوم والتكنولوجيا، وتطوير البحث العلمي والابتكار وربط الجامعة بالمحيط وبالاقتصاد الوطني. ومع كل تدرج في الإصلاح يحضر مفهوم انفتاح الجامعة على المحيط الذي ظل قيد مفهوم ضيق، ارتبط -في أغلبه- بشراكة ثقافية وعلمية من خلال عقد ندوات مع جهة أو قطاع، مما حول مفهوم المحيط إلى مجرد البحث عن تمويل لندوةٍ في أغلب الأحيان لا يتم توثيقها، وإن تم نشرها لا يستفيد منها المحيط إلا قليلا، مع العلم أن مفهوم انفتاح الجامعة على المحيط يُقصد به تأثير الجامعة باعتبارها مجالا حيويا منتجا للمعرفة العلمية على المحيط، وفي الوقت ذاته استفادة الجامعة من خدمات المحيط مثل تأمين تداريب للطلبة، وإيجاد فرص شغل لهم. استمر الحديث عن الإصلاح بإدماج التكنولوجيا في التعليم الجامعي، وفي السنوات الأخيرة خاصة منذ 2016 إلى الآن اهتم الإصلاح بمفهوم الحكامة الجامعية، ودخول مفهوم الشراكة عوض مفهوم الانفتاح ومفهوم المقاولات عوض المحيط. وذلك، من خلال الشراكة بين الجامعة والمقاولات لتعزيز البحث العلمي والابتكار. انتقل إذن، الانفتاح إلى الشراكة والمحيط إلى المقاولات.
لا شك أن التحول له علاقة طبيعية ببروز دور المقاولات في الاقتصاد الوطني، وتنويع مجالات السوق المحلي. لكن السؤال الذي يطرح باستمرار: هل تمت دراسة الانفتاح الأولى على المحيط من أجل تطوير العلاقة مع مفهوم الشراكة المقاولاتية، في سبيل تمكين خريجي الجامعات من فرص عمل في سوق له قابلية الإدماج والاحتواء؟ وهل المنظومة التعليمية تنهج سياسة تحليل الوضعيات، وتجربة البرامج المعتمدة، وبناء وعي موضوعي علمي يسمح بإضاءة واضحة لمظاهر الخلل، وتعثر البرامج ووضعية السوق ومدى استجابته للتكوينات، ومدى استجابة التكوينات لتحولات السوق؟، وإلى أي حد تحضر التصورات المُصاغة في الطروحات والديباجات عند اعتماد البرامج التكوينية؟ وإلا لِماذا لم تتحرك الجامعة نحو السوق، ولم يتحرك السوق نحو الجامعة، ومازلت الفجوة تتعمق، خاصة مع تحول مفهوم المهنة، وبروز مهن جديدة ليس لها علاقة بالتكوين الجامعي؟.
ما نلاحظه في مختلف مراحل تدرج الإصلاح أن العلاقة مع المحيط والتي تحولت إلى علاقة مع المقاولات والسوق ظلت معقدة، وغير وظيفية، عبارة عن مجرد تفكير فيما ينبغي أن يكون عليه الوضع دون النظر في البحث عن طبيعة التكوينات المنسجمة مع السوق وهو يتحول مع العصر الرقمي.
وإذا كانت العلاقة قد شهدت بعض الحركية في كليات العلوم والمعاهد التقنية نظرا لتوفر السوق المغربي -إلى حد ما- على بعض المهن التي تستجيب لتكوينات هذه الكليات، فإن كليات الآداب والعلوم الإنسانية ظلت بعيدة عن الولوج إلى السوق والاقتصاد الوطني نظرا للفجوة الكبيرة بين التكوينات والسوق.
ما يعمق الفجوة اليوم أن منطق السوق تغير، وبات التحول الرقمي يتحكم فيه وفي منتوجاته إلى جانب تغير مفهوم المهنة. وما كان خللا أصبح إشكالية نتيجة تعميق الفجوة بين التكوينات المعرفية في العلوم الإنسانية ومنطق السوق.
إن استمرار الحديث عن انفتاح الجامعة على المحيط، وربط التكوينات بالسوق، وإقامة الشراكات الجامعية بالمقاولات ، يظل تصورا بعيدا عن دراسة ميدانية أولا لطبيعة السوق المغربي، وعلاقته بالتحول الرقمي، ونسبة المهن الجديدة الموجودة، وحاجة السوق المغربي لخريجي العلوم الإنسانية، و تحليل سياسة الشراكات التي عقدتها الجامعات المغربية مع المحيط والمقاولات، و إنتاج فهم بهذه العلاقات، وشروط نجاحها وتحدياتها، وهل بالفعل هي شراكات بنيوية أم أنها أفقية تظل مرتبطة بوهم الشراكة الذي قد يقف عند تمويل لقاء ثقافي أو ندوة علمية دون أن تستفيد هذه الشراكة من هذا التعاون والتمويل.
وكما هو مبرمج في إطار الاستراتيجية التنموية المغربية، فإن اعتماد المغرب على الذكاء الاصطناعي والابتكارات الرقمية يتم بوتيرة متصاعدة، ومن المنتظر أن يكون لهذا الاعتماد الذكي تأثيرا ملموسا على السوق والمهن الجديدة والخدمات خاصة مع إطلاق استراتيجية مما يعني إعادة هيكلة الوحدات التكوينية بما ينسجم و تحول السوق من “Digital 2030”.
أجل تأمين فرص عمل لخريجي العلوم الإنسانية، دون أن يعني ذلك تفريط كلية العلوم الإنسانية لوظيفتها المعرفية الأولى المتمثلة في دورها المحوري في بناء المشروع المجتمعي والثقافي للدولة. لم تكن وظيفة العلوم الإنسانية فقط تعليمية، بل انطلقت من حاجة استراتيجية لإعداد نخب فكرية وثقافية قادرة على فهم المجتمع، وتحليله، والمساهمة في بنائه. ولكون هذا النوع من الكليات ينتمي إلى العصر الرقمي فمن المفروض أن تطور الكليات وظيفتها الحضارية والمجتمعية لإعداد نخب قادرة على تحليل التحولات الاجتماعية والثقافية والنفسية، وإنتاج المعنى من هذا التحول.
فهل يدخل هذا الأفق في التفكير في التكوينات المعرفية لكلية العلوم الإنسانية؟ وهل يتم الاهتمام بضرورة مواكبة العلوم الإنسانية لتحولات المجتمع، وحاجة الدولة إلى نخبة جديدة من شأنها أن تساير هذا التحول بتفكيكه علميا، وتحليله حتى لا ينفلت التحول من الوعي المجتمعي؟ وهل يتم اعتماد تكوينات بعلاقة مع السوق الوطني ومستقبله، ومع الانفتاح على سوق العمل العالمي؟ أم أن الفجوة تتقلص وقد تغيب في الديباجات والتصورات، وتتعمق في الواقع؟..
يبدو أن كلية العلوم الإنسانية في حاجة ملحة لإعادة إنتاج رؤية واضحة بعيدة عن تمارين البرامج المعتمدة، واقتراح وحدات خارج رؤية واضحة، واستثمار الكفاءات المغربية في صياغة تصور يلائم العلوم الإنسانية في العصر الرقمي. ولا يتم التفكير في الرؤية إلا برؤية وطنية شاملة متكاملة ومتفاعلة ووظيفية تجمع كل القطاعات المكونة للسوق المغربي والعالمي.
تذهب بعض المقاربات التقليدية إلى اعتبار العلوم الإنسانية عبارة عن مجال علمي غير مربح للسوق، ولا ينسجم مع المهن الجديدة، وتنطلق هذه المقاربات من تصور أصبح متجاوزا وهو ربط التقنية والتكنولوجية بكليات العلوم الرياضية والفزيائية والمعاهد التقنية، وهو تصور يُعبر عن تمثل ملتبس لمفهوم العلوم بالنسبة للمنتصرين لهذه المقاربات. وهنا نستطيع أن نعطي مثال الذكاء الاصطناعي وعلاقته بالبحث العلمي والدرس الأكاديمي في العلوم الإنسانية، وماهي التكوينات التي يمكن اعتمادها من أجل خلق طلبة وباحثين يمتلكون قدرة التحكم في الذكاء الاصطناعي، بتفعيل وظيفته الخدماتية، وتجنب مخاطره الاستهلاكية. فالذكاء الاصطناعي لا يشكل خطرا مباشرا على البحث الأكاديمي والعلمي، لأن تطور التكنولوجيا أمر واقعٌ، وتحدياته كبيرة، واستثمار خدماته ضرورة علمية و حياتية وثقافية وحضارية، ولكن الخطورة في عدم البحث عن تكوينات التعامل مع الذكاء الاصطناعي، وفي عدم الاهتمام بإدخال وحدات تكوينية للمهارات الرقمية لطلبة العلوم الإنسانية وبجدية ومسؤولية وليس فقط تكوينات خارج رؤية الوحدات المعرفية. وتعد مهارة الفكر النقدي من أهم المهارات التي يتم الاشتغال بها في جامعات عالمية، لأنها تمكن الطالب من قدرة ممارسة التفكير النقدي في علاقته بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية المتطورة.
إن ربط العلوم الإنسانية بالسوق الجديد مع التحول الرقمي، واعتماد الدولة رؤية رقمية، ووضع برامج وأجندات تفعيل هذه الرؤية، يفترض انسجام العلوم الإنسانية مع هذا الطموح التنموي. ويتطلب الأمر تعديلات هيكلية واضحة في البرامج التكوينية، وتوجيه الطلبة نحو دراسة مهارات القرن الحادي والعشرين، وتفعيل الشراكات مع القطاع الخاص وفق أجندة تُلزم كل شريك بدوره الوطني في تأمين فرص العمل لخريجي الكلية.
ومن أجل تحقيق توازن بين الأفق الرقمي وسرعة تحول السوق ونظام التكوين بالعلوم الإنسانية نتصور ضرورة انتقال كلية الآداب والعلوم الإنسانية إلى المفهوم الجديد وهو الإنسانيات الرقمية من أجل سرعة الولوج في زمن التحول الرقمي.
* جامعة محمد الخامس
متخصصة في تحليل الخطاب الرقمي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى