عندما تَحسم الوثائق التاريخية الجدل الإيديولوجي حول الصحراء المغربية
الميزان/ الرباط: أ.د.محمد جودات*
في خضم المسار والزخم الدبلوماسي الدولي المؤيد للموقف المغربي من قضية صحرائه، يأتي كتاب “تاريخ الصحراء المغربية وقضية الحقوق التاريخية حتى المرحلة الكولونيالية: دراسة تاريخية وثائقية جديدة” للدكتور إسماعيل حامل إسماعيل علي، [الصادر ضمن منشورات المركز الدولي للدراسات الصحراوية، سلسلة البحوث والدراسات المحكمة رقم 001/25، في طبعته الأولى سنة 2025، عن دار مخطوطات للنشر والتوزيع في لاهاي-هولندا]، ليشكل إضافة نوعية للمكتبة الأكاديمية المتخصصة في هذا الملف الشائك، فما يميز هذا العمل الموسوعي ليس فقط غزارة مادته العلمية وعمق بحثه التوثيقي، بل أيضاً الظرفية الزمنية التي صدر فيها، متزامناً مع الطي النهائي لقضية الصحراء المغربية على المستوى الدولي، بعد سلسلة من الاعترافات الدولية المتتالية بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وتبني مبادرة الحكم الذاتي باعتباره حلاً واقعياً وعملياً للنزاع الإقليمي المفتعل.
ويكتسب الكتاب أهمية مضاعفة كونه من تأليف باحث مصري هو الصديق الصدوق الأستاذ الدكتور إسماعيل حامد إسماعيل علي، وهو ما يضفي على العمل بعداً موضوعياً إضافياً يتجاوز الخطاب الإيديولوجي المعتاد. فالمؤلف، بوصفه أكاديمياً ينتمي إلى فضاء عربي أفريقي محايد، يقدم رؤية تاريخية مستقلة تنأى عن الانحيازات السياسية المسبقة، مستنداً إلى المنهج العلمي الصارم والوثائق التاريخية الموثقة، ولعل هذه المسافة الموضوعية التي يتمتع بها المؤلف تجعل من دراسته مقاربة أكاديمية وإبستيمولوجية ذات مصداقية عالية في عيون المجتمع الدولي والأكاديمي، إذ تخرج القضية من إطارها الوطني المعرفي الضيق لتُطرح على طاولة البحث العلمي الدولي المحايد، حيث تتحدث الوثائق والخرائط القديمة والمخطوطات التاريخية بدلاً من الخطابات السياسية.
ومن أبرز المكاسب المعنوية والعلمية لهذا العمل هو صدوره خارج المغرب، وهو ما يمنح الدراسة بعداً دولياً ويؤكد على أن قضية الصحراء المغربية باتت واضحة المعالم حتى في العيون الأكاديمية غير المغربية، ويعكس هذا الاختيار الاستراتيجي للمركز الدولي للدراسات الصحراوية تحولاً نوعياً في طريقة تناول القضية، من نزاع إقليمي إلى موضوع بحثي يحظى باهتمام المراكز الدراسية الدولية، ثم إن نشر مثل هذا العمل الضخم من قبل مركز بحثي يشكل اعترافاً ضمنياً بالجهد العلمي المغربي في توثيق حقوقه التاريخية، كما يعكس تنامي القناعة في الأوساط الأكاديمية الدولية بوجاهة الموقف المغربي استناداً إلى الحجج التاريخية والجغرافية والأنثروبولوجية.
وقد استهلت المستشرقة الإسبانية البروفيسورة مارابيياس أغييار أغييلار الكتاب بتقديم ركّزت فيه على أن هذا المًصنَّف يمثّل إسهاماً علمياً رصيناً في دراسة الإشكالية التاريخية والجيوسياسية للصحراء المغربية، إذ يتبنّى الباحث منهجية تحليلية مُوثَّقة تستند إلى مُعطيات أرشيفية ووثائقية متنوِّعة، مع توظيفٍ مُحكَمٍ للخرائط التاريخية والدراسات الأثرية المُعاصرة التي تُعزِّز البُعد الكارتوغرافي للسردية المطروحة. ويتميَّز العمل بتوليفةٍ منهجية تجمع بين التحليل الخلدوني للظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبين الاستدلال التاريخي المُؤسَّس على حُججٍ نصيَّة ووثائقية دامغة، مما يُتيح للقارئ استيعاب الجذور الحضارية والانتماءات الثقافية لهذا الفضاء الصحراوي عبر حِقَبه المتعاقبة. وعلى الرغم من حساسية الموضوع وتشابُك أبعاده الإقليمية، فإنَّ الدراسة نجحت في تقديم معالجةٍ أكاديمية متوازنة تُثري المكتبة العربية بمساهمةٍ نوعية تجمع بين العُمق التحليلي والوضوح المنهجي، مُبتعِدةً عن التعقيد اللغوي والانحيازات الإيديولوجية الصريحة، ولعل تقديماً من هذا النوع لمستشرقة إسبانبة يمنح الكتاب بُعداَ أوروبياً إضافياً يُعزّز موضوعيته العلمية.
لقد انطلق الدكتور إسماعيل حامد إسماعيل في مقدمته بتحديد منهجيته البحثية والأسس التي بنى عليها دراسته الشاملة عبر تسعة عشر فصلاً علمياً دقيقاً، حيث خصص الفصل الأول لدراسة الصحراء الكبرى من منظور جيولوجي وتاريخي شامل، متناولاً في مباحثه الأربعة التمهيد التاريخي والتعريف بالصحراء الكبرى باعتبارها الصحراء الأم، ثم استعرض التاريخ الجيولوجي القديم لهذه المنطقة وأساليب تدوين تاريخها عبر العصور، بينما كرس الفصل الثاني لدراسة التسميات المختلفة للصحراء المغربية في المصادر التاريخية والجغرافية القديمة، مستعرضاً مسميات مثل ديار لمتونة أو صحراء لمتونة وبلاد السوس الأقصى وريو دي أورو أو نهر الذهب، وهي تسميات تؤكد عمق الارتباط التاريخي بين هذه المنطقة والسيادة المغربية منذ أقدم العصور، أما الفصل الثالث فقد تناول المناطق الجغرافية التي ارتبطت تاريخياً بالصحراء المغربية مثل منطقة جزولة ووادي نول الذي يعد بوابة الصحراء إلى الجنوب ووادي ترجا المعروف بالساقية الحمراء، وفي الفصل الرابع قدم المؤلف دراسة علمية معمقة حول التغيرات المناخية ومرحلة الجفاف الكبير بالصحراء، موثقاً مراحل الجفاف التي امتدت ما بين الألف الخامس والألف الثاني قبل الميلاد وتقسيمات التغيرات المناخية المختلفة، ثم انتقل في الفصل الخامس إلى دراسة البربر باعتبارهم المكون الإثني والديموغرافي القديم في الصحراء، مقدماً في ستة مباحث تمهيداً تاريخياً شاملاً وتعريفاً دقيقاً بالبربر ومصطلح بلاد بربر وأصولهم وتقسيمات قبائلهم وبطونهم وفروعهم المختلفة، مع دراسة العلاقة بين البربر والقبائل الأفريقية المحلية، وخصص الفصل السادس لاستعراض أهم قبائل البربر وبطونهم بالصحراء كالصنهاجيين وبربر زناتة والمصامدة والطوارق، بينما تناول الفصل السابع المكونات الإثنية والديموغرافية الأخرى بالصحراء كالفينيقيين والسودانيين والأفارقة الزنوج والجرمنتيين والعرب، وفي الفصل الثامن قدم سرداً تاريخياً مشوقاً حول الكشف عن طلاسم الصحراء منذ أقدم العصور من خلال رحلة إيتوبال الصوري ورواية المؤرخ هيرودوت ورحلة الملك هانون الفينيقي ورحلات التجار الجرامنتيين والإغريق والرومان، ثم خصص الفصل التاسع لدراسة جوانب من تاريخ ديار لمتونة أو صحراء لمتونة الاسم القديم للصحراء المغربية، متناولاً صحراء الملثمين وجبل لمتونة وأمراء صحراء لمتونة أو حكام الصحراء المغربية المبكرين، وفي الفصل العاشر استعرض إرهاصات القوافل التجارية المبكرة عبر الصحراء وطرق ومسالك التجارة الصحراوية ووسائل الانتقال التقليدية، أما الفصل الحادي عشر فكان بمثابة توثيق شامل للدور المغربي وأثره الثقافي والحضاري في بلاد جنوب الصحراء، حيث أفرد ثمانية مباحث لتوضيح دور المغاربة في ازدهار تجارة الملح والذهب ودور التجار الأفارقة في تجارة القوافل، مستشهداً بشواهد القبور بوصفها دليلاً على الوجود المغربي في جنوب الصحراء منذ القرون الهجرية الأولى، كما وثق ملامح رواج التجارة المغربية في القرن الرابع الهجري من خلال الوثائق والصكوك التجارية، ودور التجار المغاربة في نشر الإسلام والثقافة الإسلامية بما في ذلك دور الشيخ أبي البركات المغربي في إدخال أهل غانة الإسلام، ودورهم في تأسيس بعض الكيانات السياسية في جنوب الصحراء، وفي الفصل الثاني عشر قدم دراسة مفصلة عن الطريق اللمتوني باعتباره طريقاً تجارياً عبر الصحراء المغربية مع توثيق مساره القديم من سجلماسة عبر صحراء لمتونة إلى أوليل، ثم تناول في الفصل الثالث عشر المراكز التجارية الكبرى عبر هذا الطريق المغربي، وخصص الفصول من الرابع عشر إلى الثامن عشر لتوثيق الحكم المغربي للصحراء عبر العصور المختلفة بدءاً من دولة المرابطين بين عامي 448-541هـ حيث استعرض قيام الدولة ودور الأمير أبوبكر بن عمر وملامح السيطرة المغربية على شمال أفريقيا والصحراء ودور المرابطين في بسط النفوذ المغربي على أراضي غانة القديمة، ثم أحوال الصحراء أيام دولة الموحدين بين 540-668هـ ودور ابن تومرت وبربر المصامدة واهتمام الحكام الموحدين بالطريق التجاري عبر صحراء لمتونة، مروراً بالنفوذ المغربي في عصر الدولة المرينية بين 642-869هـ والتنافس على السيطرة على الصحراء بين ملوك بني مرين وحكام مالي، ثم الحكم المغربي في عصر الدولة السعدية بين 916-1069هـ مع التركيز على دور أحمد المنصور السعدي وتعيين قادة الجيش المغربي ولاة على الصحراء المغربية وبيعة ملك البرنو للسعديين واختطاط مرسى أكادير، وصولاً إلى الحكم المغربي للصحراء أيام الدولة العلوية منذ حوالي سنة 1076هـ حيث وثق تأسيس الدولة واهتمام مولاي محمد الشريف بالصحراء وتقديم سكان الصحراء فروض الولاء والطاعة لمولاي الرشيد وأحوال الصحراء أيام مولاي إسماعيل، وفي الفصل التاسع عشر الختامي قدم المؤلف وثائق ملموسة من خلال دراسة الرسائل ووثائق البيعة بين سكان الصحراء وسلاطين المغرب، مستعرضاً مفهوم البيعة في الإسلام وجوانبها في بلاد المغرب الأقصى وبيعة ولاة وزعماء الصحراء لسلاطين المغرب مع تقديم نماذج من الرسائل والمبايعات بين عمال الصحراء وسلاطين المغرب، وقد ذيل الكتاب بملاحق قيمة تضم خرائط وصوراً للمخطوطات القديمة للصحراء المغربية إلى جانب ثبت شامل للمصادر والمراجع التي اعتمد عليها.
وبهذا يمثل هذا العمل الموسوعي الضخم وثيقة تاريخية وعلمية استثنائية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك الحقوق التاريخية المغربية في الصحراء منذ عصور ما قبل الإسلام وحتى المرحلة الكولونيالية، وتشكل شهادة أكاديمية محايدة من باحث غير مغربي تضاف إلى الأدلة الدامغة التي تحسم النقاش حول هذه القضية المصيرية في وقت يشهد فيه العالم تحولاً نوعياً في الاعتراف بمغربية الصحراء وطي هذا الملف نهائياً على المستوى الدولي.
* أ.د. محمد جودات
أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس
رئيس المركز الدولي للدراسات الصحراوية