مطلب المساواة بين الجنسين: رؤية فقهية متجددة 3/1
الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور إسماعيل حفيان
almizan.ma
مطلب المساواة بين الجنسين: رؤية فقهية متجددة 3/1
الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور إسماعيل حفيان
توطئة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإن الكلام عن مبدأ المساواة بين الجنسين، قديم قدم الإنسان نفسه، فمنذ أن خرج آدم وحواء إلى هذا الوجود، خرج معهما سؤال التمايز في الخلقة، والمكانة، والوظيفة المنوطة بكل واحد منهما؟ والبحث في العلل الكامنة وراء هذا التمايز، والنظر في مقتضياته وآثاره في هذه الحياة، وهل يقتضي ذلك نوع أفضلية توجب لأحدهما سلطة وهيمنة على الآخر ؟ أم هو محض تنوع في الخلق؛ يناسب تكامل الأدوار المنشودة منهما في هذه الحياة؟ وعلى أي وجه يكون ذلك ويتقرر؟
إنها أسئلة مشروعة، لا تزال إلى يوم الناس هذا تتردد بين الدارسين، ينقلها جيل عن جيل، ويتوارثها الخلف عن السلف.
وفي كل دورة حضارية من دورات تاريخنا الإنساني تنشئ لنفسها صورا جديدة من صور التدافع الحضاري، ومظاهر حادثة من مظاهر الصراع الفكري التي تنبئ عن المثابة المعرفية التي وصل إليها المجتمع البشري في أبعادها الثقافية والاجتماعية والتشريعية، مما يبعث على الظن بأنها معضلة عصية على الحل، وأنها ستبقى محل سجال ديني وفلسفي مستمر، تتضارب بشأنها الآراء والاتجاهات إلى أن يشاء الله أمرا.
ومن تأمل تاريخ فكرة “المساواة بين الجنسين” وما انطوت عليه من اختلاف في الرؤى والتصورات بين الدارسين، وما جرته على المرأة بالخصوص من شدائد ومتاعب باعتبارها الطرف الذي أريد له أن يكون الأضعف في هذه المعادلة؛ وجد أن السمة التي كانت تطغى عليها في الغالب؛ هي سمة اللبس وعدم التمييز بين مفهومين اثنين: متراكبين متداخلين:
أولهما: مفهوم المساواة من حيث كونها مبدأ إنسانيا أصيلا في الفطرة البشرية، فإن الرجل وإن بلغ ما بلغ من الظلم والتعسف لم ولن يستطيع أن يزيل من شعوره وضميره أن المرأة هي أخته وأمه وبنته، أي أنه ينتمي إليها وتنتمي إليه.
والثاني: مفهوم المساواة باعتباره تشريعا قانونيا ملزما يرجع إلى العادات المتوارثة والأعراف السائدة التي يفرضها أولو القوة والسلطة في المجتمع -وهم الرجال في الغالب- وينظر في الالتزامات والحقوق والواجبات بلحاظ الاستعدادات والقدرات التي يتوفر عليها كل فرد فرد في المجتمع.
من هذا المنطلق يُشرع أمام الباحث باب واسع ممتد الأطراف لمقاربة هذا الموضوع من زواياه المختلفة، وعلى رأسها –كما في بحثنا هذا- زاوية الفقه والتشريع، وهي الزاوية التي يفرض على الباحث فيها أن ينظر في كل الأبعاد التاريخية والفلسفية والاجتماعية لكي يستثمر معارفها وإمكاناتها في صياغة رؤية عادلة ومنصفة تنظم العلاقة بين الجنسين.
المساواة في التشريعات غير الإسلامية: معالم وشواهد.
في الفكر اليوناني القديم كان أفلاطون في جمهوريته الطبقية “الفاضلة” يتبنى فكرة المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة إذا انحدرا من طبقة اجتماعية واحدة، كما في طبقة الحراس –مثلا- فقد سوى بينهما تسوية كاملة في التكاليف الحربية والعسكرية، وانتهت به هذه التسوية الظالمة إلى مقولات هدامة وأفكار منحلة، لعل أبرزها وأفحشها ما سيسمى لاحقا بالشيوعية الجنسية المطلقة.
أما أرسطو أبو المنطقية والعقلانية فبالرغم من أنه كان يقر بالفوارق الخلقية والتمايز في الخصائص والمواهب بين الرجل والمرأة، إلا أنه لم يستطع أن يتخلص من رواسب الثقافة اليونانية السائدة، وكان يؤمن في كل كتاباته بأفضلية خلقية وعقلية للرجل على المرأة .
وفي التشريعات والرسالات السماوية السابقة، وإن كنا نعتقد أنها في أصلها متضمنة لكثير من قيم الإنصاف والعدل والرحمة والتقدير، إلا أن ما تسلط عليها من تأويل غال وتحريف مبطل أقصى المرأة عن مكانتها الشريفة المستحقة لها، وروج –للأسف- لقيم بئيسة بديلة؛ تحط من قدرها، وتقصيها عن أدوارها المنوطة بها، فأضرت بها ضررا شديدا، وأساءت إليها إساءات بالغة.
ففيما كانت تنسب إلى الرجل صفات الكمال والتميز والاصطفاء، تنسب المرأة في المقابل إلى الانحراف والغواية، وأنها سبب البؤس البشري، وأن قدرها أن تتحمل مسؤولية الغضب الإلاهي الذي حل بالبشر بعد الخطيئة الأولى، وتكون في خدمة الرجل وتحت سلطته لا أن تكون أختا له وعدلا له .
وكم كان الأمر بئيسا حينما تلبست هذه الأفكار بلبوس الدين والإرادة الإلهية، ونشرت في الناس على أنها قدر الله وأمره المحتوم الذي قهر به المرأة.
وكم ازداد الأمر بؤسا حينما غسل دماغ هذه المسكينة لتستقبل هذا التمييز على أنه حكمة وهداية إلهية، وأن سعادتها وخلاصها يكمن في الإيمان بهذه العقيدة الفاسدة، والاستسلام لمقتضياتها الظالمة وقوانينها الجائرة.
ولم يكن الأمر في المسيحية ليختلف كثيرا عن العهد القديم، فقد بقيت المرأة تتحمل نفس النظرة الدونية وتعاني المذلة والهوان.
ولو رحنا نستقرئ مظاهر هذا الازدراء والإهانة وشواهد الظلم والجور في التاريخ الأوروبي الوسيط لطال بنا المقال، يقول الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس: “أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب؛ لأن الرجل هو رأس المرأة” ، أي أنه يستمد سلطته وسيادته من الرب، وهو الآمر الناهي للمرأة، ولو في غير المعروف.
أما في العصر الحديث، عصر الحداثة والتنوير، فقد اختلفت الدعوات إلى المساواة بين مقولات جذابة المظهر، خبيثة المخبر، ظالمة للمرأة، وهاضمة لحقوقها، وتراوحت في الغالب بين اتجاهات فكرية مختلفة في مصادرها المعرفية ومبادئها الفلسفية.
– أولها: مرحلة التنظير والتأمل الفلسفي والاجتماعي في طبيعة الصلة بين الرجل والمرأة، وقد باشرها جماعة من فلاسفة عصر الأنوار أمثال جان جاك روسو، وفولتير، وغيرهما.
– ثانيها: مرحلة التجييش السياسي والتحشيد للقوى النسوية إبان الثورة الفرنسية، وقد ظهر فيها نوع اهتمام بالمرأة وحقوقها، لكنه اكتفى في مراحله الأولى بالدعوات والوعود والنداءات، ولم تظهر له آثار فعلية ملموسة إلا بعد أجيال لاحقة.
– ثالثها: مرحلة الاستغلال التجاري لجسد المرأة من خلال الفن والسينما والإشهار على نحو انتهازي خادع جردها من خاصية الأنوثة التي شرفت بها، بل كاد أن يأتي على البقية الباقية من إنسانيتها.
– رابعها: مرحلة التوظيف السياسي الذي أصبحت فيه حقوق المرأة كما الإنسان سلاحا إعلاميا وسياسيا يوظف كما يوظف سلاح التطرف والإرهاب وتقرير المصير ضد كل من يحمل أفكارا ناقدة أو معارضة لفلسفة الحداثة وما يدعى بالتنوير سواء كان فردا، أو هيئة، أو دولة .
وفي تقديري أن الفكر الحداثي بغروره وكبريائه المدعى، وتفلته من كل ما هو أخلاق وتراث وهوية؛ أفضى بالبشرية إلى نموذج مجتمعي معاد للقيم الأخلاقية والدينية؛ يقوم على فكرة المساواة الظالمة المطلقة التي أقحمت فيها المرأة إقحاما متعسفا دون النظر إلى خصوصياتها النفسية واستعداداتها الفطرية وأدوارها الاجتماعية الخاصة بها المجبولة عليها.
هذا النموذج هو الذي أوصل البشرية إلى مآسي: المثلية الجنسية، والتحول الجنسي، والتحرش الجنسي، والشيخوخة السكانية، والتفكك الأسري من طلاق، وتخلي عن الآباء والأبناء، وقطع الأرحام، وهلم جرا…
يتبع
الدكتور إسماعيل حفيان أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بنمسيك