الشوكة و السكين/ وشم من ذاكرة المطعم الجامعي بظهر المهراز
الميزان / مراكش :حاميد اليوسفي

almizan.ma
عندما دخل المطعم الجامعي لأول مرة أخذته دهشة غريبة. حدث ذلك في نهاية السبعينات من القرن الماضي (1978). ثلاث قاعات كبيرة لتناول الطعام أمام كل منها طابور طويل من مئات الطلبة ينتظرون دورهم للدخول إلى المطعم. لينضم إلى أحد هذه الطوابير عليه الذهاب إلى الشباك، واقتطاع تذكرة بدرهم وأربعين فرنكا. الانتظار يأخذ وقتا طويلا بعد الثانية عشرة زوالا. سيفهم فيما بعد أنه إذا أراد تناول وجبة الغذاء في هذا الوقت عليه أن يأخذ معه مجلة أو جريدة، يتلهى بها حتى يحين دوره.
بعد أكثر من ساعة يصل إلى الباب، ويدفع التذكرة. يراقب من سبقه عن كثب، ويفعل مثله. يأخذ من أحد العمال (بلاطو) وملعقة وشوكة وسكين. يقدم (البلاتو) لعاملة فتضع الخبز، وعامل آخر قطعة اللحم ، ورابع المرق والخضر وخامس السلطة. وبعد ذلك تفاحة وليمونة وكأس الماء.
في اليوم الأول. لم يختر، ولم يستبدل أي شيء. اكتفى بتتبع ومراقبة كيف تجري الأمور.
اتجه رفقة صديقه إلى طاولة في الخلف. استغرب لهذا العدد الكبير من الطلبة الذين يتناولون وجباتهم بجانب بقايا طعام من مخلفات من سبقوهم، وهم يتحدثون إلى بعضهم البعض.
انتهى شوط، وبدأ آخر. وضع (البلاطو) فوق الطاولة. التفت يمينا وشمالا، أغلب الطلبة والطالبات يتناولون وجباتهم بالشوكة والسكين. إذن عليه أن يفعل مثلهم. نظر إلى الشوكة والسكين، وعلا الاحمرار وجهه قبل أن يضع يده عليهما. في البيت يكتفي بغسل يديه، ويقول باسم الله بصوت مسموع، ثم يتناول طعامه بتلقائية. ولابد أن يجلس بشكل لا يترك فجوة للشيطان بأن يأكل من تحته، لأنه في هذه الحالة سيحتاج إلى طعام كثير ، ولن يشبع لأن الشيطان يأكل من تحته كما يقول الكبار. الآن بعد كل هذه السنين يجلس فوق كرسي ، ويجد أمامه، لأول مرة شوكة وسكين و(بلاطو) ووجبة خاصة، سيتناولها بمفرده. لا بد أن التدرب على الأكل بهذه الأدوات القادمة من وراء البحار سيأخذ ذلك وقتا طويلا. سأل نفسه ألا يمكن الاستغناء عنها بشكل مؤقت، والعودة إليها عند الحاجة.
رأى شابا يجلس في الطاولة الثالثة المقابلة لمكانه يأكل بيديه دون حرج ، لا بد أن يفعل مثله؟ ماذا سيحدث ؟ سيسخر منه بعض الطلبة في صمتهم ! ليفعلوا ما بدا لهم.
مع مرور الأيام اكتشف أيضا أن الكثير منهم لا يحبون وجبات المطعم الجامعي. في المطعم الجامعي يطبخون بالصودا والشحوم لحوما مجمدة قيل بأنها مستوردة من الأرجنتين، كما شاع في ذلك الوقت. وكرد فعل نفسي على ذلك، سيكتشف فيما بعد، بأن العديد من الطلبة تعودوا على سرقة الشوكة والسكين والكأس وأحيانا (البلاطو) نفسه.
البعض يظن ، وبعض الظن إثم، بأن العين التي لا تنام، وإدارة الحي الجامعي، والمسئولين عن التعليم العالي، يتعمدون استيراد هذه اللحوم، وطبخها بالصودا والشحوم حتى يصاب الطلبة بمرض المعدة إلى الأبد. وعندما يتخرجون يكفون عن الشغب، ويتناولون القليل من الطعام، وينشغلون بأمراضهم.
في فترة الامتحانات اغلب الطلبة يتنازلون عن ذوقهم، ويقتنون عشرات التذاكر لضمان تغذية موازية لأيام التحضير واجتياز الامتحان.
عثر أحد الطلبة في فترة الامتحانات على حشرة في صحنه. أراها لمن يجلس بجانبه في المطعم طالبا التضامن معه. كان التضامن يبدأ بالاحتجاج بالضرب على (البلاتو) بالملعقة أو السكين، ثم ينتقل إلى مقاطعة الأكل، وبعد ذلك التظاهر أمام ممرات المطاعم. وغالبا ما يحدث ذلك بعد صرف المنحة. لم يفهم المسكين أن جل الطلبة في هذه الفترة من السنة، يدخلون في أزمة مالية، تمتد إلى بداية الموسم المقبل.
الكثير من الطلبة يقتنون في هذه الفترة تذاكر شهر أو أكثر لتناول وجبة الغذاء بالمطعم، خوفا من الوقوع في أزمة تغذية خانقة أثناء مرحلة اجتياز الامتحانات. وتتحول هذه التذاكر إلى عملة صعبة قابلة للصرف عند الحاجة.
مجلس القاطنين بالحي الجامعي بفاس فرض تقليدا على الإدارة منذ أيام حظر الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، تحول إلى مكسب يستفيد منه الطلبة الذين لا يملكون ثمن تذكرة تناول وجبة العشاء. كانت الوجبة حسب الاتفاق كاملة بالنسبة لغير الممنوحين، وتقتصر على (الخبز والحريرة) بالنسبة لغيرهم. وإذا كان الطالب شاطرا و(قافز) بتعبير المراكشيين، يمكنه أن يستفيد من وجبة كاملة.
تسكن ذاكرته وجبات شعبية موروثة عن ثقافة محلية. خارج الحي أو البيت يمكن أن يتناول صحنا صغيرا من (البيصارة) أو العدس أو اللوبية في منتصف النهار بدرهم واحد، وهو الطعام المناسب لطالب يعتمد بشكل كلي على المنحة. ولا يمكن أن يتجاوز هذه الميزانية إلى أضعافها إلا إذا لعبت الخمر برأسه.
تناول الطعام مع الجماعة يخضع لميزانية خاصة. صديقه عزيز طباخ ماهر، يمتعهم بين الحين والآخر بأكلات فاخرة. ألذها وأحلاها (طنجية) ب (كرعين الغنم). حدث ذلك مرة واحدة. وحسن تخصص في طبخ الوجبة التي ورثها عن والده: السردين (المشرمل) بالقزبر والمعدنوس والتوابل.
كفتة الحصان رخيصة نسبيا، وعزيز يضيف إليها الأرز والتوابل للقضاء على مذاقها الرديء. عندما توضع هذه الوجبة في صحن أبيض كبير، تبدأ معركة من نوع آخر، معركة الأمعاء الفارغة. في فصل الشتاء يمسحون الصحن، والبخار لا زال يتصاعد منه.
لا أحد يسأل إن كان الأمر يتعلق بلحم الحصان أو البغل أو الحمار . الجزار كتب على اللوحة بأنها كفتة لحصان. إذن هي كفتة من لحم الحصان. وميز بين نوعين: كفتة للبشر، وكفتة للكلاب. فهي كفتة مخصصة للبشر، إذا أديت 20 درهما مقابل الكيلوغرام الواحد.
المعجم:
ـ ظهر المهراز:الحي الذي يحتضن جامعة سيدي محمد بن عبد الله بمدينة فاس .
مراكش 13 يوليوز 2017