كتاب الراىمنوعات

مدام رفيق / وشم في الذاكرة

الميزان / مراكش :حاميد اليوسفي

almizan.ma


لحظات مضت عليها سنوات طويلة، بعضها يحضر في الذاكرة كأنه حدث بالأمس، وبعضها تحول إلى ما يشبه صور قديمة أخذت في بداية الستينات بالأبيض والأسود، وفعل فيها الزمان فعله.
الدخول المدرسي في بداية السبعينات لم يكن يشبه في شيء الدخول المدرسي اليوم. كنا قد نجحنا في امتحان السنة الرابعة إعدادي، وانتقلنا إلى ثانوية محمد الخامس (باب أغمات)، كما حصلنا أيضا على شهادة البروفي. وهي شهادة كانت كافية للحصول على وظيفة معلم بالمدارس الابتدائية في تلك الحقبة.
بعد الانتهاء من إجراءات التسجيل، ومعرفة القسم الذي سندرس به، والزملاء الذين سنتقاسم معهم الحلو والمر طيلة سنة دراسية، يبقى التطلع بلهفة لمعرفة أسماء الأساتذة الذين سيشرفون على تعليمنا وتدريسنا.
لم نتمكن في بداية الموسم من الدخول إلى مادة اللغة الفرنسية. كنا نقف بالقرب من باب القاعة بشكل متعمد. تدخل الأستاذة، وتنتظر مدة ربع ساعة ثم تغادر القاعة. والسبب في ذلك أننا جمعنا بعض المعطيات، جعلتنا نكون عنها صورة سلبية بمنظورنا كتلاميذ على أنها مدرسة صعبة المراس و(منحوسة).
لا نعرف اسمها الشخصي، ولم نسأل عنه. قيل لنا بأنها من مدينة الصويرة. وكنا نناديها فيما بيننا بمدام رفيق رغم أنها من جنسية مغربية. تبدو في الثلاثينات من عمرها. متوسطة القامة، نحيلة، شعرها اسود متجعد، لون بشرتها يميل إلى سمرة مفتوحة وجذابة. تستعمل القليل من المساحيق. ترتدي تارة لباسا عصريا أنيقا، وتارة الجلباب التقليدي خاصة أثناء مرحلة الحمل. تحمل حقيبة جلدية كبيرة لا أتذكر إذا كانت سوداء أو بنية. لا تفتحها إلا إذا أرادت إخراج رواية أو ديوان شعر أو قلما وورقة. لا تتكلم كثيرا خارج الدرس. ترتجل خطابها بلكنة فرنسية مؤثرة، تعكس تمكنها من هذه اللغة بشكل كبير.
الساحة في ثانوية محمد الخامس مليئة بالتلاميذ والتلميذات طيلة فترة الدراسة. لا احد يسجل الغياب، ولا احد يسال عنه. التلاميذ أحرار في الالتحاق بأقسامهم كأنهم في الجامعة. بقينا على هذه الحال حوالي أسبوعين قبل أن يتشجع احدنا، ويدخل إلى القاعة، ويتبعه باقي التلاميذ.
خيم صمت رهيب على القاعة للحظات. الوقت يمر بطيئا. وانتظار القرار الذي ستتخذه الأستاذة خلق في صفوفنا قلقا وتوترا كبيرين. وأخيرا أخذت مدام رفيق الكلمة، وقالت بأنها ليست مسئولة عن دخولنا للقاعة في الوقت المحدد، وعلى أن هذا المشكل نتحمل نحن والإدارة مسؤوليته.
مدام رفيق من خلال المعطيات التي قدم لنا تلاميذ سبق أن درستهم، لا يمكن أن تتسامح بهذه البساطة مع الخطأ الفظيع الذي ارتكبناه. طمأنتنا بهذا الشكل لا تبشر بخير. العقاب قادم لا محالة. متى ؟ وكيف ؟ مدام رفيق وحدها تعرف.
أملت علينا نصا باللغة الفرنسية، لم اعد قادرا على تذكر مضمونه، وطلبت منا شرح ما يتضمنه من كلمات صعبة ، وتلخيصه على أساس انه سيكون موضوع نشاطنا في الحصة القادمة. كما طلبت منا أيضا اقتناء دفتر وأوراق مزدوجة، وتسلم روايتين من الخزانة المدرسية لكاتبين جزائريين ( ابن الفقير) لمولود فرعون، و(الدار الكبيرة ) لمحمد ديب إذا لم تخني الذاكرة.
في بداية الأسبوع الموالي طلبت منا إخراج النشاط الذي كلفتنا به. دونت التاريخ وعنوان النشاط على السبورة، وتفحصت مليا القاعة، ثم أشارت لتلميذ قوي البنية، يبدو من خلال مظهره الجسمي على انه الأقوى بدنيا داخل الفصل، وطلبت منه القدوم إلى السبورة، وتدوين جزء من التلخيص الذي أنجزه. قام المسكين وهو يتصبب عرقا. تيقنا بأنه سيدفع ثمن الأسبوعين الذين أضعناهما بالقرب من القاعة. قبل أن ينتهي من تدوين الجملة الثالثة أوقفته . سخرت بأسلوب استهزائي من بعض الأخطاء الإملائية والصرفية والتركيبية التي وردت فيما خطه على السبورة (ما هاد البطاطا؟؟). وصرخت فيه مستنكرة أن تسمح المؤسسة لتلميذ يرتكب مثل هذه الأخطاء بان ينتقل لهذا المستوى الدراسي. انهار المسكين اغرورقت عيناه بالدموع. انتقلت إلى تلميذ آخر، طلبت منه تحديد مكامن الأخطاء وتصحيحها. هجمت عليه هو الآخر بلسان (سليط). بدأ التلميذ البدين يكتب ويبكي.
لا أحد كان يتمنى أن تشير إليه بالنهوض إلى السبورة. في مثل هذه اللحظات الرهيبة التي يشعر فيها الإنسان بالضعف، فانه يستنجد بكل القوى الخفية التي يعتقد بأنها يمكن أن تنقده من هذا الجحيم الذي فتحه على نفسه. رغم أنها حامل، وربما في شهرها الثاني أو الثالث ، فقد أدارت هذه الحصة بقساوة. قبل نهاية الدرس خفضت تدريجيا من مستوى التوتر الذي شعرنا به، فقدمت لنا بعض التوجيهات:
ـ ممنوع الأخطاء الإملائية، بإمكانكم اقتناء معجم، والتأكد من الكلمة قبل كتابتها.
ـ ممنوع الخلط بين فعل الملكية وفعل الوجود في الماضي المركب…
وختمت الحصة بان طلبت منا تلخيص جزء من الرواية، والبحث عن الكلمات الغامضة في المعجم، وتدوينها في مذكرة خاصة.
التلميذ البدين الذي اختارته مدام رفيق لتمرير رسالتها للقسم، أصبح فيما بعد أستاذا جامعيا يدرس القانون الدولي بجامعة القاضي عياض.
جميع التلاميذ اقتنوا معجما للغة الفرنسية. كنا نقوم بتلخيص الجزء المطلوب من الرواية ونفحصه لتجنب الأخطاء الإملائية، ونبحث عن معاني الكلمات الصعبة، ونسجلها في مذكرة إلى جانب بعض العبارات والجمل التي تثير إعجابنا. وعندما تعترضنا بعض الصعوبات نستعين بمن هم اكبر وأكثر معرفة منا باللغة الفرنسية، ونأتي إلى الحصة طالبين السلامة.
لم تكد تمضي ثلاثة أشهر حتى أصبحت مادة اللغة الفرنسية من أحب المواد. وأصبحت معها مدام رفيق الأستاذة المتمرسة المتشبعة بلغة فرنسية تنهل من أدب وثقافة القرن التاسع عشر، تبحر بنا رغم ضعف لغتنا الفرنسية إلى عوالم شارل بودلير وفيكتور هيكو وفيرلين ومولود فرعون ومحمد ديب والطاهر بنجلون والشرايبي وغيرهم.
أتذكر جيدا حينما تشعر بأننا لم نفهم بعض الكلمات أو العبارات، كانت تكتفي بحك رأسها، وتقديم أكثر من شرح أو تفسير. عندما اقترب موعد الولادة بدأت تشعر بنوع من الإرهاق. تحك رأسها، لكنها تجد صعوبة في العثور عما تبحث عنه. آنذاك قررت الاستفادة من رخصة الولادة.
طيلة مرحلة التعليم الثانوي لم نحظ بمدرس أو مدرسة في مستوى مدام رفيق.غرست البذرة واختفت. ما درسناه في ثلاثة أو أربعة أشهر كان كافيا لتمكيننا من حد ادني أهل بعضنا بعد سنتين لاجتياز امتحان بالباكالوريا في مادة اللغة الفرنسية بامتياز، وكذلك قراءة أعمال أدبية كبيرة باللغة الفرنسية مثل جيرمينال والأحمر والأسود والسيرة الإنسانية وغيرها من روائع الأدب الفرنسي.
عندما انبش اليوم في الذاكرة بعد كل هذه السنين، أجد نفسي مدينا لمدام رفيق بالإدمان على قراءة الرواية.

مراكش 14 شتنبر 2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى