كلمة الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة بمناسبة الافتتاح الرسمي لندوة التمرين بطنجة
الميزان/ طنجة : متابعة
almizan.ma
الجمعة 24 يونيو 2022
بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين
تلقيت بكبير الفخر والاعتزاز، وبمشاعر تمتزج فيها روابط الماضي بالحاضر دعوتكم الكريمة السيد النقيب المحترم للمشاركة في افتتاح فعاليات ندوة التمرين التي ما فتئت نقابة هيئة المحامين بطنجة تسعى إلى الحفاظ عليها وتكريسها عرفا راسخا في مسار المحامي المنتمي لهذه الهيئة العتيدة. وبهذه المناسبة اسمحوا لي بأن أعبر لكم عن إحساس خاص يطبع مشاركتي معكم هذه اللحظة في هذه المدينة التي تشدني إليها وشائج روحانية كلما حللت بها حيث تربطني بها ذكريات جميلة في حياتي المهنية التي قضيت بها ما يربو عن عقد من الزمن وكيلا عاما للملك لدى محكمة الاستئناف بطنجة، هذه المؤسسة العتيدة التي تؤرخ لحقبة تاريخية استثنائية من قضاء المملكة المغربية خلال فترة من الزمن، فكما تعلمون، فإن تاريخ القضاء في منطقة طنجة اتسم بالتفرد والتميز نظرا للمكانة التاريخية التي كانت تتميز بها هذه المنطقة إبان عهد الحماية تأسيسا على ما جاء في معاهدة باريس المؤرخة في 18 دجنبر 1923، وهي المعاهدة التي صدر على أساسها ظهير 16 فبراير 1924 الذي تم بموجبه إحداث محكمة دولية بهذه المنطقة أطلق عليها اسم المحكمة المختلطة كما أحدثت في نفس التاريخ هيئة للمحامين بطنجة أسند أمر تسييرها لنقيب ومجلس ينتخبان على رأس كل سنتين. ليصدر بعد ذلك ظهير شريف رقم 1.57.043 بتاريخ 11 أبريل 1957 بشأن النظام العدلي بعمالة طنجة أحدثت بموجب الفصل الثاني منه محكمة الاستئناف بطنجة، وتصبح بذلك هذه الأخيرة جزءاً لا يتجزأ من التنظيم القضائي المغربي.
ولا تفوتني الفرصة لأعبر لكم عن عميق امتناني لجميع العاملين بهذه الدائرة القضائية من قضاة وموظفي كتابة الضبط فضلا عن باقي منتسبي المهن القانونية والقضائية وعلى رأسهم السيدات والسادة المحامون، ثم السلطات الأمنية والإدارية، فقد كان لتكاثف جهودهم دوما دور بارز في المساهمة في إقامة أمر العدالة بها كل من موقعه.
وهي مناسبة لأجدد لهم الشكر على ما بذلوه من جهد في سبيل إحقاق الحق وضمان الأبعاد الأخلاقية الحقيقية للمحاكمة العادلة.
فلكم مني تحية إكبار وإجلال وشكر وامتنان.
حضرات السيدات والسادة؛
لقد كان لاختيار عنوان الندوة تميز هام يبرز النظرة المستقبلية لهيئة المحامين بطنجة بتناولهم لموضوع ذي حمولة وأبعاد لهما دلالات في تكريس دور الهيئة التأطيري والتربوي والتخليقي فضلا عن التكويني لأجيال الغد ممن سوف يحمل مشعل الدفاع في محراب العدالة، ذلك أن العنوان المتمثل في ” تأهيل المحامي المتمرن من أجل مستقبل مهني أفضل” عنوانٌ يختزل رسالة بليغة تحمل الانتظارات الأساسية من محامي المستقبل.
فرسالة المحاماة رسالة متجددة تحمل مقومات صلة الماضي بالحاضر لتمتد عروشها إلى الآتي من الزمن، وهي بذلك تشكل النموذج الحي للمهنة التي تمتزج فيها الأعراف والتقاليد بمقومات الحداثة والرقمنة، لتشكل ضمانا من ضمانات الدفاع عن الحق والعدل وسدا منيعا في مواجهة كل ما يمكن أن يمس بمقومات المحاكمة العادلة.
حضرات السيدات والسادة أعضاء هيئة الدفاع والسادة المحامين المتمرنين ،
لقد كانت ولازالت المحاماة رسالة سامية جوهرها الدفاع عن الحق وعن رفع الظلم فانطلاقا من القرآن الكريم ورد في قوله تعالى : “إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور” الآية 38 من سورة الحج، وفي قوله تعالى : ” واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري” الآية 29 من سورة طه.
وفي ذات السياق فإن لها مكانة خاصة في وجدان جلالة الملك محمد السادس نصره الله تجسد في ارتداء جلالته لبذلة المحامي أثناء اجتماع المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب خلال شهر نونبر من سنة 2000، تعبيرا من جلالته على تقديره لسمو رسالتها، ومحورية دورها في الإسهام في تحقيق العدالة، كما وجه جلالته بنفس المناسبة رسالة سامية إلى المجتمعين من المحامين أشاد فيها بالطابع الكوني لرسالة المحاماة حينما خاطبهم حفظه الله : “إن موقفكم الثابت من مساندة الحق الفلسطيني لم ينبع من مجرد الانتماء القومي ومناصرة قضاياه فحسب، ولكنه يصدر بالأساس عن الوعي بالطابع الكوني لرسالة المحامي القائمة على صيانة الكرامة الإنسانية وحماية قيم العدل والإنصاف والذود عن الحريات العامة الفردية والجماعية كما أنه نابع من الإيمان بأن المحاماة رسالة إنسانية نبيلة وضرورية في أي مجتمع مستمدة سموها ونبلها من إحقاق الحق ورفع المظالم ومساعدة العدالة على بلوغ هذه المقاصد العليا”. انتهى النطق الملكي السامي.
كما كانت الرسالة الملكية التي وجهها جلالته إلى المؤتمر التاسع والأربعين للاتحاد الدولي للمحامين المنعقد بفاس بتاريخ 31 غشت 2005 مناسبة أخرى لإبراز الحرص على المكانة التي تضطلع بها رسالة المحاماة، إذ جاء في رسالة جلالته أنه: “وبقدر ما أصبح لمهنة المحاماة من طابع عالمي، فإنها تواجه ضرورة توحيد القيم السلوكية المثلى، واعتماد التكوين المستمر، والاستجابة لمتطلبات مواكبة العالم الرقمي، والتوفيق بين وجوب احترام الحريات، وصيانة النظام العام، في ظل سيادة القانون وسلطة القضاء. دون أن ننسى أنها قبل كل شيء، مهنة إنسانية مثالية تقتضي إلى جانب الفقه القانوني، النزاهة في العمل، من أجل مساعدة القضاء، الذي يُعتَبَر المحامون جزءا من أسرته الكبيرة الموقرة، وشريكا أساسيا له في تحمل مسؤولية إحقاق الحقوق ورفع المظالم، على أسس العدل والإنصاف وسيادة القانون، ونشر الثقة والاستقرار، اللازمين لتأمين الحياة الاجتماعية، وتحفيز الاستثمار، والنهوض بالتنمية الاقتصادية.” انتهى النطق الملكي السامي.
وأكيد أن هذه المقاصد السامية والمثل العليا لمهنة المحاماة هي التي جعلت جلالة الملك المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه يقول قولته الشهيرة” لو لم أكن ملكا لكنت محاميا” وهي شهادة ملكية غالية تشكل وسام اعتزاز على صدر كل من يرتدي بذلة الدفاع في مختلف ربوع المملكة.
حضرات السيدات والسادة؛
إذا كان لقاؤنا اليوم هو تجسيد لعرف ثابت نلتقي من خلاله بالسيدات المحاميات المتمرنات والسادة المحامين المتمرنين لاستنهاض هممهم وتحسيسهم بأنهم ولجوا محراب العدالة وبأنهم أضحوا ضمن أسرة القضاء، فهو مناسبة كذلك لتذكيرهم بأن مهنة الدفاع بقدر ما هي تشريف للمنتسب لها، فإنها في ذات الوقت مهنة التزام بكل المبادئ الفضلى تطوق صاحبها، ذلك أن رسالتها لا تكتمل إلا باحترام أعراف المهنة وأخلاقياتها، فالمحاماة مهنة الشرف والقيم الفاضلة التي تلزم كل محام بتبنيها وجعلها دستورا يوميا يمشي على هديه، وهذا ما أكده قانون المهنة نفسه في مادته الثالثة التي نصت على أنه: “يتقيد المحامي في سلوكه المهني بمبادئ الاستقلال والتجرد والنزاهة والكرامة والشرف، وما تقتصيه الأخلاق الحميدة وأعراف وتقاليد المهنة”، وهو ما شدد عليه ممارسون مرموقون لمهنة المحاماة والقضاء، قديمهم وحديثهم ومنهم الفقيه الفرنسي دوجيسو رئيس المجلس الأعلى للقضاء بفرنسا سابقا الذي قال إن “المحاماة عريقة كالقضاء، ومجيدة كالفضيلة، ضرورية كالعدالة، وإن المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور والناس دون أن يكون عبدا لهم، فالمحاماة تجعل المرء نبيلا بغير ولادة، غنيا بغير مال، رفيعا دون حاجة إلى لقب، سعيدا بغير ثروة”.
وبهذه المناسبة، وانطلاقا من الأدوار التوجيهية التي نقوم بها سواء أكنا قضاة أو محامين، فإننا ندعو أبناءنا وبناتنا من المحامين المتمرنين والمحاميات المتمرنات لأن يتحلوا بالمبادئ السامية التي تجعل من المحامي قدوة، وتؤهله ليكون أمثَل صلة وصل بين المتقاضين ومرفق القضاء، وإنني لواثق من أنهم لن يجدوا صعوبة في التشبع بالقيم المبدئية التي تشكل أساس عمل المحامي ورمزية ونبل رسالته. كما أنني متأكد من أنهم سيجدون في نقبائهم وحكمائهم من المحامين المتمرسين نبراسا يحتذى به في هذا المشوار.
وإذا كانت المتغيرات المتلاحقة التي يعرفها المشهدان التشريعي والقضائي قد ضاعفت الجهود من أجل مسايرتها والإلمام بمستجداتها، فإن ذلك يجب ألا يتم على حساب أعراف مهنة المحاماة وقيمها الراسخة وتقاليدها العريقة. فإلى جانب التسلح بالمعرفة القانونية ومواكبة مستجدات الاجتهادات القضائية وخاصة محكمة النقض والتمرس على إتقان استعمال وتوظيف الوسائل التكنولوجية الحديثة فإنه لا مناص من استحضار الضمير المسؤول الذي ينصت لهموم المتقاضين ويترافع من أجل إحقاق الحق وتكريس سيادة القانون.
إن شعار ندوة التمرين المرتكز على عنصر التأهيل كأداة لا محيد عنها من أجل مستقبل أفضل، يدعونا جميعا إلى التفكير المشترك في السبل المثلى لتكوين الجيل الصاعد من المحامين الشباب.
وإذا كان التكوين الأساسي يوفر للمحامي الآليات التقنية الأساسية لممارسة مهنته، فإن التكوين المستمر يجعله مواكباً للمستجدات القانونية، منفتحاً على التجارب والخبرات المتطورة. ذلك أن التحولات المتلاحقة التي يشهدها عالم اليوم والنصوص القانونية المتسارعة باتت تتطلب ضرورة مواكبة كل هذه المستجدات التي أصبحت تفرضها العولمة الاقتصادية بكل تجلياتها المختلفة وفتح أبواب الأسواق العالمية أمام المنافسة الحرة مما يجعل مسألة تأهيل مهنيي العدالة بشكل عام والمحامي بشكل خاص خياراً لا مناص منه وهو الأمر الذي يقتضي وضع استراتيجية للتكوين الأساسي والمستمر وتشجيع التخصص.
بناتي وأبنائي المحاميات والمحامون المتمرنون؛
اسمحوا لي بأن أكشف لكم من خلال تجربتي وخبرتي في القضاء وما راكمته من علاقات مهنية مع السادة المحامين، أن المهنة التي اخترتم ممارستها ليست بالهينة، فمشاقها كبيرة ومعاناتها متواصلة، كيف لا وأنتم الذين ستكونون في اتصال مباشر مع هموم المواطنين والمظلومين، وستكونون أنتم صوتهم وحلقة الوصل بينهم وبين القضاة والموظفين ومساعدي العدالة وغيرهم من المتدخلين في الشأن القضائي، ما يجعل من فترة تمرينكم فرصة للاجتهاد من أجل اكتساب مقومات المحامي الناجح ومؤهلات الخبير القانوني الذي يمزج بين القانون وروحه وقواعد المهنة وحركيتها الاجتماعية، لتكونوا مؤهلين لممارسة مهامكم وتلبية نداء رسالتكم على أكمل وجه بعد استكمال تمرينكم، خاصة وأنكم كمتمرنين أنتم المرآة التي تعكس مقومات وأخلاقيات مهنتكم من خلال أدائكم وكذا في حياتكم الخاصة التي يجب أن تعبر عن مستوى عال من المسؤولية وحرص على تبني واستحضار القيم المثلى بما يتناسب مع وضعكم الاعتباري الجديد ويرفع من منسوب الثقة في مهنتكم السامية التي تفرض عليكم الالتزام ببناء علاقة مثينة مع القضاء، وذلك من خلال التشبث بالمبادئ والأعراف التي تنسج علاقات مهنية وإنسانية تستند إلى التقاليد والأعراف التي تربط بين المحامي ومحيطه من قضاة بالمحكمة وأطر وسلطات عمومية في تناغم مع روح القسم الذي تؤدونه في بداية ممارستكم، فتشبعكم باحترام محيطكم هو قيمة مضافة لمستوى تواصلكم مع كل الفاعلين في قطاع العدالة وتقييم لنجاحكم في الانضباط لأعراف وتقاليد مهنتكم.
وأنتم تدشنون مرحلة جديدة من حياتكم يجب أن تفخروا بانتسابكم لمهنة تحملون فيها أمانة الإسهام في إقامة العدل وتستحضرون صورة الميزان المعبرة عن رمزية العدالة، حيث على القاضي واجب الحفاظ عليه، وعليكم أنتم المحامون من خلال المرافعة والحجة والإقناع أن تسعوا للدفاع عنه وحمايته بأمانة وجرأة وإخلاص، وهما معا، أي القاضي والمحامي، يحققان سويا الأمن القضائي للأفراد والجماعات، ويسهمان في بناء المجتمع التواق والطموح إلى تحقيق العدالة التي تزرع السكينة والاطمئنان وتعزز ثقة المواطن في قضاء بلاده.
وفي الختام أتوجه من جديد بالشكر الجزيل والامتنان للسيد نقيب هيئة المحامين بطنجة ولأعضاء مجلس هيئته على دعوتهم الكريمة وكذا لكل من ساهم في تنظيم هذا اللقاء العلمي المتميز. كما أسأل الله تعالى أن يوفقكم وييسر أمركم إلى ما فيه صلاح العدالة وتدعيم ثقة المواطنين فيها، حافزكم ما تشبعتم به من مبادئ علمية في مساركم التعليمي، وهاجسكم احترام القسم الذي أديتموه، وهدفكم الأساسي حماية الحق وتحقيق العدالة في توازن وتعاون بين مختلف مكوناتها، وذلك خدمة للصالح العام، ولما يصبو إليه وطننا العزيز في ظل القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة المنصور بالله جلالة الملك محمد السادس أعزه الله ونصره وأقر عينه بولي عهده الأمير الجليل مولاي الحسن وشد أزره بصنوه السعيد الأمير مولاي رشيد وكافة أسرته الشريفة، إنه سميع الدعاء وبالإجابة جدير. وفقكم الله جميعا.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
*مولاي الحسن الداكي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة*