almizan.ma
العمى الأزرق*/ قصة قصيرة
الميزان/ ذ.حاميد اليوسفي
أكد الطبيب لعمر بأن الأمر سيكون سهلا. عملية جراحية بسيطة، وسيعود يبصر كأنه في سن العشرين. تكاليف العملية حوالي مئتين وخمسين ورقة زرقاء من فئة مئتي درهم. كل ورقة تذبح ديكا. انتابته بعض الشكوك. المبلغ كبير، والطبيب لا يجري هذه العمليات إلا في مصحات خاصة لا تربطها أية شراكة مع القطاع التعاضدي. عليه أن يدفع المبلغ نقدا، وبعد ذلك يجمع وثائق الملف، ويرسلها إلى التعاضدية، وينتظر التعويض الذي قد يهبط إلى أقل من أربعين بالمئة بسبب جشع الأطباء وأرباب المصحات، ونفخهم في الفواتير. لم يكتف الطبيب بتحديد المبلغ، وتعليل ارتفاعه بغلاء الأجهزة الطبية، بل هدده بأنه إذا تراخى، ولم يجر العملية في أسرع وقت، سيفقد بصره بالمرة. وما زاد من قلقه وتوتره طلبه لمبلغ أسود من تحت الطاولة. تساءل بمرارة:
ـ يا إلهي كيف انتقلت عدوى المبالغ السوداء من بيع العقارات للتهرب من أداء الضرائب إلى قطاع الطب؟
فكر في تقديم شكوى للقضاء، لكنه تراجع عن ذلك في آخر لحظة، خوفا من أن ينتقم منه طبيب آخر، ويفقأ عينيه، أو تُوجه له المحكمة تهمة الإساءة إلى سمعة إطار وطني كبير.
ترحم في صمت على ابي قراط وقسمه، وجيل السبعينات من الأطباء!
تخيل نفسه أعمى لا يرى شيئا. لا يمكنه أن يقرأ، أو يكتب، أو حتى يخرج، لأنه لن يتمكن من هبوط السلم بمفرده، وإذا فعل قد ينزلق، ويتدحرج إلى أسفل. أكيد ستتكسر عظامه. وافترض أنه إذا ساعده شخص ما في الهبوط، كيف يمشي في الشارع؟ هل يشتري عكازا يتحسس به الطريق؟ وهل يسلم من شغب الأطفال، واعتداء اللصوص في الأزقة الخالية من المارة؟
وإذا بقي سجينا في البيت، كيف يتنقل إلى المطبخ أو المرحاض؟ يمكن أن يستعين بلمس الحائط، ويسير ببطيء، يصل إلى الثلاجة، ويفتحها، ثم يتدرب على تحسس محتوياتها، حتى يعثر على قنينة الماء. الشقة صغيرة يمكن أن يتدرب بسرعة على التنقل بين مرافقها. لكن إذا لعبت الخمرة برأسه، ولم ينتبه لبعض الحواجز يمكن أن يتعثر ويسقط. لا بد أن يسقط، ويُجرَح ليتعلم السير في الظلام.
هو الآن ليس أعمى. لكن يمكنه أن يغمض عينيه، ويتنقل بين الغرف. عليه أن يحفظ الطريق أولا.
لم تكد تمضي بضعة دقائق حتى أحس بالضجر. تعجب للعميان كيف يقضون حياتهم في الظلام. لا يعرف بالضبط الألوان التي تتراءى لهم في النهار. لا بد أنها لا تشبه ألوان الليل. لا لا يمكن أن يرى الأعمى اللون، هو فقط يتخيل الألوان. يخلق لها صورة في ذهنه، لكنه لا يراها في الواقع.
عندما كان طفلا سمع الكبار يقولون بأن الأعمى يرى بقلبه ما يرى الناس بعيونهم. وعندما تقدم به العمر لم يجد أي تفسير لذلك. عليه أن يجلس مع شخص أعمى، ويسأله ليشبع فضوله.
تساءل مستغربا:
ـ كيف يحب الأعمى امرأة لم ير وجهها هل هو جميل أم قبيح، وجسدها بدين أم نحيف؟
ـ قد تصفها له أمه أو أخته.
ـ لكنها قد تخطئ في الوصف. ما تراه الأم جميلا قد يراه هو عكس ذلك. ومن يضمن له بأنها لن تخونه مع شخص آخر مبصر.
سمع الكبار أيضا يقولون بأن حالات العمى والعرج والصم والبكم يُعوض الله عنها خلقه بحالات أخرى أكثر قوة. والبعض يرى أنها عقوبات ينزلها الله ببعض الأشرار من خلقه.
أغمض عينيه حوالي ساعة. رأى في الظلام ما لن يخطر على بال أحد. كل شاشات الهواتف والقنوات التلفزية تحتلها الجرذان. جرذان كبيرة ترتدي وزرات بيضاء، وبدلات سوداء، أصابها العمى الأزرق، وهي تطارد القطط، وتأكل في طريقها أعمدة الكهرباء، وتفترس بوحشية أي بشر يمر من أمامها. الناس في هلع تهرب في كل الاتجاهات، والجرذان العمياء تطاردها.
مراكش في 20 يونيو 2023
ملاحظة:
“العمى الأزرق” قصة منشورة في كتاب مرافئ الصادر عن مجلة بصرياثا العراقية وهو من إعداد الكاتب المغربي مهدي ناقوس. الطبعة الأولى 2023 ص 32 ـ 33 ـ 34 .