قطر بين هندسة الفوضى وحراسة مصالحها العليا
الميزان/ الرباط: فيصل مرجاني

almizan.ma
قطر بين هندسة الفوضى وحراسة مصالحها العليا
الميزان/ الرباط: فيصل مرجاني
في زمن تتزايد فيه الانقسامات والانهيار الأخلاقي بين الأنظمة السياسية، تقف قطر نموذجًا صارخًا لدولة تتبنى التناقضات كمنهج أساسي، والمراوغة كاستراتيجية ثابتة، والنفاق العلني كأداة للهيمنة الناعمة. ورغم محاولاتها المستمرة للظهور كداعم رئيسي للقضايا العربية، إلا أن الواقع يكشف عن شبكة معقدة من التحالفات السرية والممارسات الوظيفية التي تخدم، في جوهرها، مصالح دولية تتناقض مع مواقفها العلنية. قطر تتنقل بين خطاب مزدوج: من جهة، تهاجم التطبيع في الإعلام، ومن جهة أخرى، تحميه وتدافع عنه في الواقع، تشجع على الغضب الشعبي في الخارج بينما تقمعه داخل حدودها، وتنتقد إسرائيل لفظيًا في حين تتعاون معها لوجستيًا وأمنيًا.
دولة قطر لم تعد مجرد كيان سياسي يسعى لتحقيق سيادته واستقلال قراره. بل أصبح واضحًا أنها تُدار كشبكة معقدة من التعاقدات الأمنية والاقتصادية مع القوى الكبرى، بما في ذلك إسرائيل. عندما اختارت قناة الجزيرة أن تكون ذراعًا إعلاميًا محرّضًا على الشوارع العربية، كانت الدولة القطرية في المقابل تمنع أي احتجاج في داخلها لدعم غزة، لأن الأجندة القطرية الحقيقية لا تقاس بمواقفها الخطابية، بل ترتبط بنشاطات بنيوية في منظومة أمن إقليمي تهدف إلى تحقيق مصالح إسرائيلية. هذا التنسيق القطري الإسرائيلي بلغ ذروته في السنوات الأخيرة، حيث شاركت قطر في مناورات عسكرية مع الجيشين الإسرائيلي والأمريكي في اليونان، ما يكشف عن مستوى غير مسبوق من التعاون الأمني واللوجستي بين الأطراف الثلاثة.
لم تكن مشاركة قطر في تلك المناورات حادثًا عارضًا، بل كان بمثابة تأكيد على انقلاب نهائي في عقيدتها العسكرية والسياسية، وهو ما تجسد في منح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) وسامًا أمنيًا رفيعًا لرئيس جهاز أمن الدولة القطري، عبد الله الخليفي، تقديرًا لدوره الفاعل في تعزيز التعاون الاستخباراتي مع واشنطن وتل أبيب، خاصة في الملفات المتعلقة بقطاع غزة والحدود البحرية والملف الإيراني. هذا التكريم لم يكن مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل كان تأكيدًا رسميًا على أن قطر أصبحت جزءًا من منظومة الأمن الإسرائيلي الممتدة، لا حليفًا عربيًا لحماس والمقاومة كما تدعي.
في إطار هذه السياسة، قامت قطر بإعادة تموضع استراتيجي في عام 2024، عندما طردت قيادة حركة حماس من أراضيها، وهو قرار نابع من اقتناع قطري داخلي بأن استمرارية التماهي مع الأجندة الأمنية الإسرائيلية تتطلب إبعاد الخطاب الثوري لحماس. هذا القرار تزامن مع تحول الظروف الجيوسياسية لصالح إسرائيل والولايات المتحدة، حيث أصبح من الضروري أن تتهيأ الدوحة لمزيد من التعاون المباشر مع المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بعيدًا عن أي خطاب ثوري مضلل. وفي عهد إدارة ترامب الأولى، لعبت قطر دورًا أساسيًا في تهدئة الوضع في غزة بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، حيث سعت جاهدة لامتصاص الغضب في القطاع بالتنسيق مع إسرائيل والولايات المتحدة، مع ضمان عدم تفجير الشارع العربي.
وفي واشنطن، شكلت قطر قوة اقتصادية مؤثرة عبر تمويلها لمؤسسات فكرية ومراكز ضغط ولوبيات يهودية متصلة مباشرة بإسرائيل. لم يكن الهدف من هذا التمويل دعم الحوار كما يُزعم في الإعلام القطري، بل كان يهدف إلى شراء النفوذ داخل الكونغرس الأمريكي وحماية النظام القطري من الانتقادات الدولية، في الوقت الذي كانت تسعى فيه لتحسين صورتها كطرف موثوق به في إدارة شؤون الشرق الأوسط. ووفقًا للتقارير، تدفقت ملايين الدولارات على مؤسسات يهودية صهيونية، وشخصيات نافذة في الأوساط السياسية والفكرية اليهودية، ما مكن قطر من تحسين صورتها في إسرائيل وعلاقاتها مع الولايات المتحدة.
الأمر الأكثر خطورة كان الاختراق الأمني الذي كشفت عنه تقارير إسرائيلية، حيث ثبت أن رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي قد تلقى أموالًا قطرية مقابل خدمات سرية، ما أدى إلى إقالته من منصبه. هذه الفضيحة، التي تم التعتيم عليها، كانت بمثابة تأكيد إضافي على أن العلاقة بين قطر وإسرائيل تتجاوز التفاهمات الدبلوماسية إلى مستوى التداخل الاستخباراتي المباشر، مما يجعل من قطر فعليًا أحد الأعمدة الرئيسية في الشبكة الأمنية غير المعلنة التي تدير المصالح الإسرائيلية في العالم العربي.
هذه التناقضات بين المال والإعلام، بين الأمن والدعاية، بين الشعارات الثورية والصفقات السرية، تكشف عن جوهر النموذج القطري الذي لا يعتمد على المبادئ بل على الوظيفة. قطر لا ترى في فلسطين قضية بل أداة للضغط، ولا ترى في إسرائيل خصمًا استراتيجيًا بل شريكًا ضمنيًا في تأمين النظام الإقليمي. كل ما تقدمه الجزيرة من خطاب عاطفي ليس سوى جزء من مسرحية تهدف إلى تعبئة الجماهير، بينما تُدار في الكواليس مفاوضات دقيقة حول المصالح الأمنية لإسرائيل في المنطقة.
قطر ليست دولة ذات سيادة مستقلة، بل هي كيان وظيفي يخضع لمنطق الحماية المتبادلة والتفاهمات الرمادية. وقد آن الأوان لكشف هذه الدولة بكل تناقضاتها وألاعيبها السياسية، لتكون فضائحها دليلاً على شبكة التواطؤات التي تُحاك في الظل، تُسخر فيها الموارد المالية والإعلامية لتحقيق مصالح غير عربية، بينما تُستثمر مشاعر الشعوب في قضايا لا تُمثلها.