ديبلوماسية الفعل: الرباط كعقل استراتيجي في قلب واشنطن
الميزان/ الرباط: فيصل مرجاني

almizan.ma
ديبلوماسية الفعل: الرباط كعقل استراتيجي في قلب واشنطن
الميزان/ الرباط: فيصل مرجاني
لا يمكن قراءة زيارة وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إلى واشنطن خارج سياق التحولات العميقة التي تشهدها هندسة التوازنات الجيوسياسية في العالم العربي وإفريقيا والساحل. فاللقاء الذي جمعه بنظيره الأمريكي ماركو روبيو لا يندرج ضمن منطق الزيارات البروتوكولية أو اللقاءات الثنائية المعهودة، بل هو تكريس لتحوّل نوعي في موقع المغرب داخل الخريطة الاستراتيجية الأمريكية. تحوّل لا يقوم فقط على التزامات الحليف، بل على إدراك مزدوج: من جهة، وعي مغربي متجذر بمصالحه السيادية، ومن جهة أخرى، اعتراف أمريكي بضرورة إعادة بناء الشراكات انطلاقاً من منطق الندية الفاعلة لا من التبعية الوظيفية.
الخطاب الأمريكي الجديد الذي عبّر عنه ماركو روبيو أبان عن قطيعة مع اللغة التقليدية التي طالما وُصفت بها العلاقات مع الرباط. فعندما تُعلن الإدارة الأمريكية أن المغرب ليس “شريكاً تاريخياً فقط، بل أكثر من ذلك”، فهي تُقر ضمنياً بأن المغرب لم يعد مجرد “عنصر استقرار” في معادلة الأمن الإقليمي، بل فاعل يُنتج التوازن من خلال رؤية استراتيجية مستقلة. وفي هذا الإطار، فإن دعم واشنطن القاطع للوحدة الترابية للمغرب ليس نابعاً من المجاملة أو الالتزامات الأخلاقية، بل من قناعة بأن أمن المنطقة يمر عبر سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وأن خريطة المنطقة لا تتحمّل كيانات وظيفية أو دويلات فاشلة تُستخدم كأدوات للتخريب أو الابتزاز الجيوسياسي.
بخلاف القراءات التي تضع المغرب في خانة الوسيط أو المنسّق الإقليمي، فإن زيارته إلى واشنطن أكدت أن الرباط تتحرك وفق منطق المبادرة، وتشتغل على ملفات دولية كبرى لا بهدف التكيّف مع الإرادات الخارجية، بل بهدف صناعة مجال استراتيجي يخدم أمنها القومي ومصالحها الحيوية. ففي دعمه لخطة السلام في الشرق الأوسط، لا ينطلق المغرب من منطلق التماهي مع المواقف الغربية، بل من رؤية شمولية تعتبر الاستقرار الإقليمي شرطًا ضرورياً لتحصين ذاته. ويمكن اعتبار تصريح الوزير بوريطة بخصوص ضرورة تحرير الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لحظة فارقة في بلورة موقف مغربي حازم، يتجاوز منطق الحياد الرمزي إلى مقاربة سياسية تؤمن بأن مرحلة ما بعد 7 أكتوبر لا يمكن أن تُبنى على منطق الانتقام أو الاستثمار في المعاناة، بل على تفكيك أدوات العنف الرمزي والمادي، وفي مقدمتها الاحتجاز كأسلوب سياسي. إنها دعوة لبناء السلام، وإزاحة العناصر المتطرفة التي تراهن على الفوضى بدل الحلول.
واشنطن لم تُخف إعجابها بالنموذج الأمني المغربي الذي يمزج بين الحزم الاستباقي والبنية الفكرية الوقائية. فالأجهزة الأمنية المغربية لم تعد فقط قوة للتصدي، بل أصبحت منظومة قادرة على توقّع التهديدات العابرة للحدود، وتحليل أنماط تشكّلها في الفضاءات الرخوة للساحل والصحراء. والإشادة الأمريكية لا تنبع من التعاون الميداني فحسب، بل من إدراك أن المغرب يقدّم نموذجًا فريدًا في الربط بين الأمن الروحي والاستقرار المؤسساتي، حيث لا يُنظر إلى الدين باعتباره خطرًا، بل باعتباره ساحةً لإعادة البناء الأخلاقي للمجتمع.
وفي هذا السياق، فإن السياسات المغربية في تأطير الحقل الديني ليست وعظًا رسميًا، بل هندسة عميقة لإنتاج خطاب ديني مقاوم للعدمية والتكفير، وهي نقطة تثير احترام القوى الكبرى التي تعجز، رغم إمكانياتها، عن بناء هذا التوازن في مجتمعاتها أو في شركائها بالمنطقة.
الجانب الآخر من المقاربة المغربية التي أبهرت واشنطن يكمن في دور الرباط كرافعة للحوار الإقليمي، وصانع لمسارات حفظ السلام في محيط مضطرب. فالمغرب لم يكتفِ بالتنظير لقيم التعايش والانفتاح، بل جعل منها أدوات ديبلوماسية فعالة تُستخدم لإطفاء بؤر التوتر وتفكيك أسباب النزاع، سواء في ليبيا أو الساحل أو الشرق الأوسط. هذا التحرك لا ينطلق من نرجسية الدولة الأخلاقية، بل من إدراك أن الأمن الإقليمي ليس ترفًا أخلاقيًا بل شرط وجودي لاستمرار الكيان السياسي المغربي في توازنه الداخلي والخارجي.
لقد فهم المغرب مبكرًا أن شرعيته الدولية لن تُبنى فقط على مواقفه الخارجية، بل أيضًا على منظومة داخلية قوية تُشرك المواطن في تدبير شؤونه، وتُحول المجتمع إلى حليف للدولة في الدفاع عن المصالح العليا. فاعتماد المغرب على نموذج الديموقراطية التشاركية جعل من مجتمعه المدني والسياسي قوة اقتراح ومبادرة، لا مجرد تابع. وهذا ما يُفسر كيف أصبح المغرب يُصدّر نموذجًا يُستأنس به دوليًا، حيث يُمكن للمجتمع أن يُسهم في إنتاج رؤية تنموية سلمية وعقلانية للعالم، انطلاقاً من الداخل.
ما يميز الحضور المغربي في لقاء واشنطن هو خروجه من موقع المتلقي للتوجهات الدولية، إلى موقع الفاعل الذي يُسهم في إعادة تشكيل معالم النظام الإقليمي. المغرب لا يعرض نفسه كضحية للاضطراب الدولي، بل كقوة عقلانية قادرة على تدبير التناقضات الإقليمية، وتأمين خطوط توازن وسط صراعات تتغذى من الفوضى والفراغ المؤسساتي. من هنا، تكتسي المبادرات المغربية في الحوار العابر للثقافات والأديان، وكذا دعم الشبكات المدنية العابرة للحدود، طابعًا استراتيجيًا لا جماليًا. فالمجتمع المدني المغربي، حين يُفعّل دوليًا، لا يمثل ترفًا دبلوماسيًا، بل يُترجم إرادة الدولة في توسيع جغرافيا التأثير الثقافي والسياسي.
في عالم يتجه نحو التمزق الجيوسياسي، ويشهد تراجعًا للمنطق التعددي وعودة فوضوية للقوة العارية، تطرح التجربة المغربية نفسها كمسار بديل لا يدّعي الطهرانية السياسية، ولكنه يُجسّد براغماتية واقعية تقطع مع الانفعال وتُراهن على البناء الطويل النفس. زيارة ناصر بوريطة إلى واشنطن هي أكثر من حدث ديبلوماسي: إنها تثبيت لواقع جديد مفاده أن المغرب لم يعد هامشًا في السياسات الدولية، ولا وظيفةً في استراتيجيات الغير، بل ذاتًا استراتيجية تتقاطع مصالحها مع القوى الكبرى، دون أن تنصهر فيها.
لقد ذهب المغرب إلى واشنطن لا ليُطلب منه، بل ليطلب ويقترح. وقد أنصتت واشنطن لا لأنها مأمورة، بل لأنها تدرك أن من لا يُنصت للمغرب، سيدفع كلفة الغياب عن التاريخ الجديد للمنطقة.