السياسيةالفقه والشريعةالقانــونقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

المنظمة الدولية لحماية التراث تتبنى مشروعاً رائداً لرقمنة المدينة القديمة بالدار البيضاء

الميزان/ الدار البيضاء: متابعة

almizan.ma

المنظمة الدولية لحماية التراث
تتبنى مشروعاً رائداً لرقمنة المدينة القديمة بالدار البيضاء
الميزان/ الدار البيضاء: متابعة
في تطور نوعي يعكس التوجهات المعاصرة لحفظ الذاكرة الحضرية، احتضنت العاصمة الاقتصادية المغربية فعاليات المؤتمر الدولي الموسوم بـ”التراث والرقمنة: آفاق وتحديات”، الذي نظمه المكتب الإقليمي للمنظمة الدولية لحماية التراث بأوروبا بشراكة استراتيجية مع المركز الدولي للدراسات التراثية، وقد شكلت هذه التظاهرة العلمية منبراً أكاديمياً متميزاً لمناقشة الأبعاد النظرية والتطبيقية لمشروع رقمنة المدينة القديمة بالدار البيضاء، الذي يمثل نموذجاً رائداً للتفاعل الخلاق بين الموروث المعماري والتكنولوجيا الحديثة.
وقد أعلنت المنظمة الدولية لحماية التراث خلال هذا المؤتمر تبنيها الرسمي لمشروع طموح يستهدف الرقمنة الشاملة للمدينة العتيقة بالدار البيضاء. ويأتي هذا الإعلان في سياق تحول نوعي تشهده سياسات الحفظ التراثي عالمياً، حيث تتجه المؤسسات الدولية المتخصصة نحو اعتماد التقنيات الرقمية المتطورة آلية استراتيجية لتوثيق المعالم التاريخية وضمان استدامتها في مواجهة التحديات البيئية والعمرانية المتصاعدة. وتكتسي هذه المبادرة أهمية استراتيجية مضاعفة، إذ تأتي في سياق علمي متميز أشرف عليه كلٌّ من الدكتور محمد جودات، رئيس المنظمة الدولية لحماية التراث ورئيس المركز الدولي للدراسات التراثية، وأستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، والدكتورة ماريابيلاس أغييار أغيلار، رئيسة المكتب الإقليمي للمنظمة بأوروبا، وأستاذة الكرسي بجامعة لالغونا، مما يعكس التقاطع المثمر بين الخبرة الأكاديمية المحلية والكفاءة البحثية الدولية.
وفي نهج بيداغوجي مبتكر يتجاوز الأطر التقليدية للملتقيات الأكاديمية، استُهلّت فعاليات المؤتمر بزيارة ميدانية للمشاركين إلى أزقة المدينة العتيقة بالدار البيضاء، حيث تحولت المعالم المعمارية والأسواق التقليدية إلى مختبر حيّ لمساءلة العلاقة الجدلية بين الموروث المادي والتحول الرقمي، وقد أتاحت هذه التجربة المباشرة للباحثين فرصة استكشاف التحديات الواقعية التي يواجهها التراث الحضري المغربي، بما في ذلك تآكل الذاكرة المعمارية وتدهور النسيج العمراني التقليدي تحت وطأة الحداثة غير المنضبطة، وامتدت هذه المقاربة التجريبية لتشمل تناول وجبة الغذاء في أحد المطاعم الشعبية العريقة، حيث تداخلت الأبعاد الحسية للمطبخ المغربي التقليدي بالتأملات النظرية حول التراث غير المادي وضرورة توثيقه رقمياً، هكذا، تحولت اللحظة الثقافية إلى محفّز معرفي لبلورة تصورات عملية حول دور التكنولوجيا في صون الموروث الشفهي والممارسات الحياتية اليومية.
افتتحت أشغال المؤتمر العلمية بجلسة ترأسها الدكتور محمد السيدي، مدير المركز الدولي للدراسات التراثية، حيث قدمت الدكتورة ماريابيلاس أغييار أغيلار مداخلة محورية بعنوان “آفاق الإنسانيات الرقمية والتراث المخطوط الأندلسي”، استعرضت فيها التحولات الإبستمولوجية التي أحدثتها التكنولوجيات الحديثة في حقل دراسة المخطوطات، مع التركيز على النماذج التطبيقية الناجحة. وفي السياق ذاته، ناقشت الدكتورة زهور كرام، أستاذة التعليم العالي بجامعة محمد الخامس، في ورقتها “التراث والدعامات الرقمية: استراتيجيات ومكتسبات”، الآليات الناجعة المعتمدة في عمليات الرقمنة، مقدمة تقييماً نقدياً للإنجازات والتحديات الراهنة، واقترحت على المنظمة وخبرائها التفكير عملياً في رقمنة المدينة العتيقة بالدار البيضاء، ومن جهته، أكد الدكتور محمد أديوان، عضو اللجنة العلمية للمركز الدولي للدراسات التراثية، في مداخلته “رقمنة التراث ضرورة حضارية ملحة”، على الطابع الاستعجالي لمشاريع الرقمنة في ظل التهديدات المتعددة التي تواجه الموروث الثقافي، ؛ وقدم الدكتور إسماعيل حامد إسماعيل، عميد جامعة مينيسوتا الأمريكية، ورئيس اللجنة العلمية للمنظمة الدولية لحماية التراث بأمريكا، ورقة بحثية متخصصة قدمها ، تناولت “إشكالية تدوين تراث الصحراء في ضوء التقنيات الحديثة”، معالجاً التحديات المنهجية والتقنية لأرشفة وتوثيق التراث الصحراوي بوصفه موروثاً إنسانياً متفرداً يتطلب معالجات رقمية خاصة؛ أما الدكتورة نعيمة مني فقد استشرفت، في ورقتها “التراث الثقافي العربي الإسلامي في عصر الرقمنة والذكاء الاصطناعي”، التحولات البنيوية المتوقعة في الحقل التراثي جراء توظيف الذكاء الاصطناعي؛ واختتمت الجلسة بمداخلة الدكتور الحسين بكار، المحلل السياسي والخبير الاستراتيجي والمستشار القانوني للمنظمة الدولية لحماية التراث، تحت عنوان “التراث في الفضاء الرقمي: أي إطار قانوني لحماية الذاكرة وصون الهوية الثقافية”، ناقش من خلالها الفراغ التشريعي القائم والحاجة الملحة لبناء منظومة قانونية دولية تحمي التراث الثقافي المرقمن.
في الجلسة الثانية التي ترأسها الدكتور محمد صغيري، رئيس ماستر الأدب والمثاقفة بجامعة محمد الخامس، تناول في كلمته دور الرقمنة في تحقيق المخطوط ودراسته، مشيراً إلى التحولات المنهجية التي أحدثتها التقنيات الحديثة في مجال علم المخطوطات. وقد ركز على كيفية توظيف الأدوات الرقمية لتجاوز الإشكالات التقليدية التي تواجه المحقق، من قبيل صعوبة قراءة النصوص المتآكلة أو المشوهة، مؤكداً أن الرقمنة لا تقتصر على مجرد تصوير المخطوطات، بل تمتد إلى تطوير منظومة متكاملة لفهرستها وتحليلها وإتاحتها للباحثين عبر العالم؛ ومن جهته تناول المشرف العام على المؤتمر، الدكتور محمد جودات، “رقمنة التراث بين العلمية وتطويع المتلقي”، الإشكالية المركزية المتعلقة بالتوازن بين الدقة الأكاديمية ومتطلبات النشر الجماهيري للمحتوى التراثي الرقمي، واستعرض التوازن الدقيق المطلوب بين الصرامة المنهجية في عمليات الرقمنة ومتطلبات التواصل مع الجمهور الواسع، مؤكداً أن نجاح أي مشروع رقمي يستلزم تحقيق هذه المعادلة الصعبة، كما قدّم جرداً شاملاً لإنجازات المنظمة الدولية لحماية التراث، مسلّطاً الضوء على دورها المحوري في تلميع الصورة الثقافية للمغرب على المستوى الدولي في غياب الدعم المحلي الكافي، وأشار إلى مبادرات المنظمة السابقة، بما فيها إصدار كتاب علمي متخصص حول تاريخ الصحراء من تأليف الدكتور إسماعيل حامد إسماعيل وتقديم الدكتورة أغييلار، باعتباره نموذجاً للإسهام الأكاديمي الرصين، وأكد على أن الرأسمال الرمزي الكبير للمنظمة يكمن في عضوية الباحثين في مختلف التخصصات العلمية، وأعلن في هذا السياق عن التزام المنظمة الرسمي بمشروع رقمنة المدينة العتيقة بالدار البيضاء، باعتباره نموذجاً تجريبياً قابلاً للتعميم على مدن تاريخية أخرى بالمغرب والعالم العربي؛ أما الدكتور نور الدين الدنياجي، أستاذ التعليم العالي بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، فقد قدم مداخلته تحت عنوان “في الحاجة إلى رقمنة التراث المغربي” تشخيصاً شاملاً للوضعية الراهنة،. واستعرض الخصوصيات الثقافية للموروث المغربي، مبرزاً الثراء الاستثنائي للمكتبات والخزائن المغربية، والحاجة الماسة إلى مشاريع رقمنة ممنهجة تحفظ هذا الإرث من عوامل التلف والضياع، مشدداً على أن غياب استراتيجية وطنية شاملة يهدد بفقدان جزء كبير من الذاكرة الجماعية للأمة؛ وفي سياق متصل، تناول الدكتور محمد التاقي، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس، العلاقة بين الدراسات اللغوية والرقمنة، مستعرضاً الإمكانات الهائلة التي توفرها أدوات المعالجة الآلية للغة في دراسة الظواهر اللسانية. وأشار التاقي إلى أن المدونات اللغوية الرقمية فتحت آفاقاً جديدة أمام الباحثين لدراسة التطور اللغوي والتحليل الإحصائي للنصوص، بما يعزز من دقة النتائج العلمية ويختصر الوقت والجهد المبذولين في البحث التقليدي؛ ومن منظور مختلف، قدمت الدكتورة فتيحة بلعباس، أستاذة التعليم العالي بجامعة محمد الخامس، مداخلة حول السرد الرقمي والتراث، حيث ناقشت كيف تعيد الوسائط الرقمية صياغة أشكال السرد التراثي، وتمنحه قوالب تعبيرية جديدة تتجاوز النص المكتوب إلى الصورة والصوت والعنصر التفاعلي. وقد أكدت أن السرد الرقمي لا يمثل مجرد نقل تقني للمحتوى، بل هو إعادة إنتاج إبداعية تمنح التراث حياة ثانية في فضاءات التلقي المعاصرة؛ وختم الدكتور بوبكر منور، أستاذ محاضر مؤهل بجامعة محمد الخامس، الجلسة بمداخلة تحت عنوان: “رقمنة الشعر العربي القديم: انتقال بالإنسان عبر الزمن”، تطرق فيها إلى البعد الوجداني والجمالي لرقمنة المتون الشعرية التراثية، وقد أبرز كيف تتيح التقنيات الحديثة للقارئ المعاصر الغوص في أعماق التجربة الشعرية القديمة بطرق لم تكن متاحة من قبل، معتبراً أن الرقمنة تمثل جسراً زمنياً يربط الحاضر بالماضي، ويمكّن الأجيال الجديدة من استعادة الحس الجمالي للشعر العربي الأصيل.
في الجلسة التي ترأستها الدكتورة فتيحة بلعباس، تناول الدكتور جواد زروقي، الأستاذ المحاضر المؤهل بجامعة محمد بن عبد الله بفاس، موضوع “اعتماد الذكاء الاصطناعي في تدريس الأمازيغية بالجامعة المغربية”، حيث استعرض الآليات الحديثة لتوظيف التكنولوجيا الذكية في الحفاظ على اللغات الأصلية وتعزيز تدريسها في المؤسسات الأكاديمية، وفي السياق ذاته، قدم الأستاذ مصطفى أحريش، الأستاذ بالمعهد الموسيقي والباحث المتخصص في التراث الموسيقي، ورقة بحثية متميزة بعنوان “الموسيقى الأندلسية المغربية والرقمنة”، سلط من خلالها الضوء على التحديات والفرص المتاحة أمام رقمنة الموروث الموسيقي الأندلسي وسبل الحفاظ على أصالته في العصر الرقمي؛ كما أغنت الدكتورة لالة مريم بلغيثة، أستاذة التعليم العالي المشاركة بجامعة زايد في أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة، النقاش العلمي بمداخلة عميقة حملت عنوان “الذكاء الاصطناعي والتراث الشفهي: رحلة من الحكايات إلى الخوارزميات”، استكشفت فيها العلاقة الجدلية بين التراث الشفهي الإنساني والتقنيات الخوارزمية المعاصرة، مبرزة التحولات المنهجية في توثيق الذاكرة الجماعية؛ وشهدت الجلسة مشاركات قانونية واستراتيجية بالغة الأهمية، وفي معالجته لإشكالية الحماية القانونية، تناول الأستاذ عبد الله السلامة، الخبير الدولي في الحماية الفكرية ووكيل وزارة الإعلام السعودية سابقاً، موضوعاً محورياً حول “الملكية الفكرية ودورها عبر شبكات التواصل المعاصرة”، مسلطاً الضوء على التحديات القانونية المستجدة في ظل الانتشار الواسع للمحتوى الرقمي عبر منصات التواصل الاجتماعي؛ ومن منظور إداري واستراتيجي، أثرى الأستاذ سالم بن سويلم بن سالم الهنائي، الخبير الدولي والأستاذ المؤطر في استراتيجيات القيادة والأستاذ المشارك بالجامعة الأمريكية مينيسوتا، الحوار الأكاديمي بورقة استشرافية معنونة “آفاق القيادة الاستراتيجية في تعزيز التراث الثقافي باستخدام تقنيات الرقمنة والإدارات الإلكترونية”، طرح من خلالها رؤية متكاملة لدور القيادة المؤسسية في إدماج التحول الرقمي ضمن استراتيجيات الحفاظ على التراث، كما تميزت الجلسة بمداخلتين بحثيتين ركزتا على الدور المحوري للمجتمع المدني والمؤسسات الأكاديمية. فقد قدم الدكتور وائل عبد الله إبراهيم سرحان، الخبير الإعلامي الدولي ورئيس فرع المنظمة بمصر، مساهمة فكرية حول “دور المجتمع المدني في حماية التراث عبر المنصات الرقمية”، أكد فيها على ضرورة تفعيل المبادرات المدنية في مواجهة تحديات الضياع الرقمي للموروث الثقافي؛ وبدوره، خصص الأستاذ طارق زكري، الباحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس بالرباط، مداخلته لموضوع “التراث المعماري الطيني بواحات الجنوب الشرقي ودور شبكات التواصل الاجتماعي في التنمية المحلية”، مبرزاً الدور المحوري للإعلام الجديد.
وفي الجلسة النهائية، تحت رئاسة الدكتورة أسماء كويحي، ساهم الأستاذ الدكتور عبد العزيز حليم، الأستاذ التعليم العالي بجامعة بني ملال، بمساهمة علمية معمقة استعرض فيها إشكالية “رقمنة التراث بين الواقع والمأمول”، مسلطاً الضوء على التحديات الراهنة والآفاق المستقبلية لهذا المسار الحيوي، ومن جانبه، قارب الباحث المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور عبد الجليل جودات، مدير مجلة قانونية وأستاذ باحث في العلوم الشرعية، موضوعاً ذا أهمية بالغة يتمحور حول “الجهود المغربية في مجال رقمنة الحديث النبوي الشريف”، موثقاً المبادرات الوطنية في هذا الحقل المعرفي الأصيل، وفي السياق ذاته، أثرت الجلسة الدكتورة أسماء كويحي، الأستاذة المحاضرة المؤهلة بجامعة الحسن الثاني عين الشق بالدار البيضاء، بدراسة استشرافية عنوانها “المعجم العربي القديم: من الورق إلى التفاعل الرقمي”، تناولت فيها التحول النوعي في طرق تداول المعاجم اللغوية التراثية.
وانتقالاً إلى التجارب الإقليمية المقارنة، استحضر الأستاذ نبيل بنصالح، الأستاذ المشارك بجامعة الزيتونة ونائب رئيس المنظمة بالجمهورية التونسية، الخبرة التونسية عبر ورقة بحثية بعنوان “إشكالية رقمنة التراث المادي واللامادي: المحدودية والعراقيل – قراءة في التجربة التونسية”، محللاً المعوقات والإكراهات الميدانية، أما الأستاذ المصطفى الناصري، الباحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس بالرباط، فقد تناول موضوع “إعادة تشكيل التراث والذاكرة الثقافية في العصر الرقمي” مستجلياً التحولات البنيوية التي يشهدها مفهوم الذاكرة الجماعية، ؛ ومن مملكة البحرين، أغنت الندوة الدكتورة بسمة قائد صالح البناء، المكلفة بمنظومة التعليم الإلكتروني بجامعة البحرين ونائبة رئيس فرع المنظمة الدولية لحماية التراث بالبحرين، بمقاربة تحليلية حول “التراث الثقافي بين الهوية المحلية والعولمة الرقمية”، معالجة جدلية الأصالة والحداثة؛ كما شاركت من سلطنة عمان الأستاذة شمسة بنت عبيد الهنائية، الممثلة لوزارة التعليم العمانية، بمساهمة مركزة حول “دور المنصات الرقمية في صون وحماية التراث الشفوي العماني”، موضحة الاستراتيجيات الوطنية المتبعة؛ وأسدل الستار على فعاليات الجلسة بمداخلة الأستاذ محمد مدني، الباحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الخامس – الرباط، التي حملت عنوان “رقمنة التراث الشفهي بمنطقة تالسينت: دراسة تطبيقية على الأمثال الشعبية”، مقدماً نموذجاً ميدانياً لعملية الأرشفة الرقمية للموروث اللامادي.
ومن أبرز السمات التي طبعت هذا المؤتمر الدولي وميزته عن غيره من الملتقيات الأكاديمية، الحضور اللافت للموسيقى التراثية المغربية والعربية، التي شكلت جسراً ثقافياً رفيعاً بين الجلسات العلمية، وأضفت على الفعاليات بعداً جمالياً وحضارياً متفرداً. فقد حرص المنظمون على إدراج فواصل موسيقية بين الجلسات العلمية، قُدمت من خلالها معزوفات تراثية أصيلة، عكست عمق الموروث الثقافي المغربي والعربي وثراءه الفني. وقد حظيت هذه اللحظات الموسيقية بإعجاب واسع وانبهار ملحوظ من قبل المشاركين في المؤتمر، الذين وجدوا في هذا التوظيف الذكي للموسيقى التراثية إغناءً للتجربة الأكاديمية وإثراءً للحوار الثقافي بين المشاركين من مختلف الجنسيات والتخصصات. وكان للأداء الاحترافي المتميز لفرقة القمر الأحمر الأثر الأكبر في تحقيق هذا النجاح الفني، حيث قدم أعضاء الفرقة برئاسة الأستاذ عبد الحق قالا، العازف على آلة القانون، مصحوباً بالأستاذ أحمد عباد العازف على آلة العود، والأستاذ أحمد بورزي العازف على آلة الرق، عُروضاً موسيقية رفيعة المستوى شكلت تجسيداً حياً للتراث الموسيقي المغربي والعربي بكل أبعاده الجمالية والروحية. لقد نجح هذا الثلاثي الموسيقي في نقل الحضور إلى عوالم الطرب الأصيل، وفي إبراز القيمة الفنية والثقافية للآلات الموسيقية التراثية، مما جعل من تجربة المؤتمر تجربة متكاملة تجمع بين العمق الأكاديمي والثراء الثقافي والجمالي.
لقد أسفر المؤتمر عن بلورة رؤية تنموية شاملة ترتكز على أربعة محاور: اعتماد التراث الرقمي باعتباره بديلاً اقتصادياً مستداماً، واستثمار التقنيات الوسائطية بوصفها رافعة تنموية ثقافية، وخلق فرص مهنية في قطاعات الرقمنة والإدارة الثقافية الإلكترونية، ثم تطوير هندسة تنموية ناعمة قائمة على القوة الثقافية.
ويُسجل لهذا المؤتمر العلمي نجاحه في تأسيس منصة حوارية متعددة التخصصات، تجمع خبرات من المغرب ومصر وتونس والبحرين وعمان والسعودية والإمارات وإسبانيا والولايات المتحدة، في سعي جماعي لصياغة أجندة بحثية متكاملة تضمن انتقالاً سلساً للموروث الحضاري نحو الفضاء الرقمي، دون المساس بخصوصيته الثقافية أو أصالته التاريخية. ويبقى الإعلان عن مشروع رقمنة المدينة القديمة بالدار البيضاء المحور الأبرز، إذ يعكس إرادة مؤسسية دولية لتحويل التراث المحلي إلى منصة رقمية مفتوحة للدراسة والبحث والتوثيق المستدام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى