السياسيةالقانــونقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

حين يُمتحَنُ الانتماء وتُستفزُّ الهوية… الوطن فوق الجميع

الميزان/ الدارالبيضاء بقلم: ذ. محمد ازوين

almizan.ma

حين يُمتحَنُ الانتماء وتُستفزُّ الهوية… الوطن فوق الجميع
الميزان/ الدارالبيضاء بقلم:
ذ. محمد ازوين*
المقدمة: حين يتألم الوطن من رموزه
أيها المواطن المغربي العزيز،
الوطن ليس مجرد ترابٍ وحدودٍ وخريطةٍ مرسومةٍ في الكتب، بل هو نبضُ القلب الذي يسكننا منذ الميلاد وحتى الممات. هو علمٌ نرفعه لا كقطعة قماش، بل كرمزٍ لكرامةٍ، ودماءٍ سالت من أجل أن يبقى خفاقًا فوق رؤوسنا.
غير أن مؤخرًا، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو أثار جدلًا واسعًا: يظهر فيه رئيس الحكومة، وهو يجلس ـ دون اكتراث ـ على العلم الوطني المغربي، رمز سيادتنا ووحدتنا وهويتنا الراسخة.
ولأننا في المنظمة الدولية للسلام والتعايش بين الشعوب نؤمن أن رموز الأوطان خطوط حمراء لا تُمسّ، وجب علينا أن نخاطب الضمير الجمعي للمغاربة، لنتأمل معًا:
كيف يمكن أن نُرسِّخ قيم الهوية والانتماء والوطنية في صفوف الناشئة وعموم المواطنين، حين يرى المواطن أن من يفترض فيه القدوة قد أخلّ بأبسط مظاهر الاحترام لرمز الدولة؟
أولًا: مفهوم الهوية بين الأصالة والتحديات المعاصرة
الهوية ليست مجرد بطاقة تعريف أو لهجة نتحدث بها. إنها تراكم تاريخي وثقافي وحضاري يُشكّل جوهر وجودنا كمغاربة.
منذ قرون، صاغت المملكة المغربية هويتها في تفاعلٍ بين مكوناتها الأمازيغية والعربية والإفريقية والأندلسية والصحراوية، فكانت هويةً منفتحة متصالحة مع التنوع، لكنها في الوقت نفسه متجذّرة في الثوابت الوطنية:
الدين الإسلامي المعتدل،
الملكية الدستورية،
الوحدة الترابية.
هذه الثوابت ليست شعارات، بل هي أعمدة الخيمة المغربية التي تستظل بها الأجيال.
وإذا ما اهتزّت الثقة في رمزية هذه الثوابت، فإننا لا نخسر مجرّد علمٍ أو شعار، بل نخسر تماسك مجتمع بأكمله.
ثانيًا: الانتماء… من الشعور الداخلي إلى السلوك العملي
الانتماء للوطن لا يُقاس بما نقوله، بل بما نفعله حين لا يرانا أحد.
الانتماء الصادق هو أن تحترم القانون، وتُخلص في عملك، وتغرس في أبنائك حب الأرض والناس والقيم.
لكن كيف سيقتنع الشاب المغربي بأهمية الانتماء إذا رأى أن من يتولى أعلى المناصب في الدولة لا يُعير أدنى اعتبار لرمز الوطن؟
إن سلوك المسؤولين له تأثير نفسي ومعنوي بالغ في تشكيل وعي الأجيال. فحين يخطئ أحدهم أمام الملأ، فهو لا يسيء إلى نفسه فقط، بل يرسل رسالة خاطئة مفادها أن الرمز الوطني يمكن أن يُهان بلا تبعات.
وهنا نقول بكل مسؤولية:
إن الانتماء ليس موروثًا وراثيًا، بل هو فعل تربوي وتواصلي يجب أن تُشارك فيه المدرسة، والأسرة، والإعلام، والنخب السياسية، والمؤسسات الدينية، والمجتمع المدني.
ثالثًا: الوطنية… مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون شعورًا وجدانيًا
الوطنية لا تُختزل في رفع العلم أثناء المباريات أو الاحتفالات.
هي موقف دائم، وسلوك قويم، والتزام أخلاقي نابع من الضمير.
حين يجلس مسؤول على العلم الوطني، فالمشكلة ليست في الجلسة وحدها، بل في الرمزية التي تُهين ذاكرة الأمة.
ذلك العلم الذي ارتفع في معركة التحرير، ولفّ أجساد الشهداء، وحُمِل في المسيرة الخضراء، لا يجوز أن يُعامَل كقطعة أثاث.
إن تصرفًا كهذا، حتى وإن صدر بغير قصد، يستوجب الاعتذار الصريح، لأن الصمت في مثل هذه الحالات هو إهانة ثانية.
رابعًا: التربية على المواطنة… حجر الأساس في بناء الأجيال
أيها الإخوة والأخوات،
إن المدرسة اليوم ليست مجرد فضاء للتعلم الأكاديمي، بل هي مصنع القيم والمواطنة.
تربية الطفل على احترام العلم تبدأ من لحظة رفعه في ساحة المدرسة، حين يقف الجميع في طابور الصباح، ويرددون النشيد الوطني بأصواتٍ متقطعة لكنها صادقة.
ولذلك فإن من واجبنا كمجتمع مدني أن نطالب بـ:
1. إدراج مواد تربوية تُعزّز الوعي الوطني والهوية الثقافية.
2. تنظيم حملات توعوية حول رمزية العلم والشعار والنشيد.
3. تكوين الأساتذة في مجال التربية على المواطنة الفاعلة.
4. إشراك الإعلام في نشر خطاب إيجابي يعيد الثقة في مؤسسات الدولة.
خامسًا: الإعلام بين دور التوعية ودور التحريض
لقد أظهرت واقعة الفيديو المتداول مدى قوة الإعلام الرقمي في تشكيل الرأي العام.
ففي غضون ساعات، تحوّل مقطع قصير إلى نقاش وطني حول قيم المواطنة والمسؤولية.
لكننا نؤكد أن دور الإعلام يجب ألا يقتصر على التنديد، بل أن يتجه نحو بناء وعي إيجابي، يشرح، ويحلل، ويقترح الحلول.
فبدل أن نغرق في سجالات سياسية ضيقة، يجب أن نطرح السؤال الحقيقي:
كيف يمكن أن نُحوّل هذا الحدث إلى فرصة تربوية وطنية تعيد الاعتبار لرمز الدولة؟
سادسًا: القدوة في زمن الاضطراب القيمي
من المؤسف أن يعيش شبابنا اليوم أزمة رموز.
فقد أصبحت القدوة تُقاس بعدد المتابعين على “تيك توك” بدل أن تُقاس بنزاهة الفعل والمسؤولية.
حين يُخطئ مسؤول، فالمطلوب منه أن يُظهر الشجاعة الأدبية ويعتذر، لا أن يلتزم الصمت ويُوكل للآخرين تبرير خطئه.
القدوة الحقيقية هي التي تُعلّمنا أن الرمز الوطني مقدّس، وأن احترام العلم هو احترام للوطن بأسره.
سابعًا: الانتماء في زمن العولمة الرقمية
العالم اليوم يعيش حالة من اللاحدود:
الهواتف، المنصات، الأفكار، كل شيء أصبح عابرًا للجغرافيا.
وهنا يبرز التحدي الأكبر: كيف نحافظ على هويتنا في زمنٍ تتساقط فيه الرموز؟
الجواب هو بإعادة بناء الوعي الوطني الرقمي، من خلال:
محتوى وطني راقٍ يحكي تاريخ المغرب العريق.
مبادرات شبابية تُبرز قصص النجاح الوطني.
إدماج القيم الوطنية في التعليم الإلكتروني.
إن الوطن ليس ضد الانفتاح، لكنه ضد الذوبان.
علينا أن ننفتح دون أن نفقد خصوصيتنا المغربية الراسخة.
ثامنًا: دور المجتمع المدني في ترسيخ القيم الوطنية
المنظمات والجمعيات الوطنية، ومنها منظمتنا، تتحمل مسؤولية كبيرة في إعادة التوازن بين الحقوق والواجبات.
فالوطنية ليست أن تطالب الدولة بكل شيء، بل أن تُعطيها قبل أن تأخذ منها.
ولهذا فإننا في المنظمة الدولية للسلام والتعايش بين الشعوب نقترح ما يلي:
1. إطلاق برامج توعوية وطنية تحت شعار: العلم رمزنا، والوطن بيتنا.
2. تنظيم ندوات مدرسية وجامعية حول مفهوم الهوية في زمن الرقمنة.
3. إنتاج أفلام قصيرة تُجسد مواقف بطولية عن احترام الرموز الوطنية.
4. إشراك الفنانين والمبدعين في حملات ترسيخ روح الانتماء.
تاسعًا: حين تُهان الرموز… تُختبر الضمائر
ما حدث ليس مجرد حادث عرضي، بل جرس إنذار.
الرموز الوطنية ليست قابلة للتأويل، بل هي مقدسات مدنية يجب صيانتها بالقانون والتربية والوعي الجماعي.
إن الإساءة إلى العلم الوطني، عن قصد أو عن غير قصد، تُعتبر ـ في الدول التي تحترم نفسها ـ عملاً يستوجب المساءلة.
لأن الرمز هو مرآة الأمة، فإذا كُسر، انكسرت الصورة في أعين أبنائها.
عاشرًا: نحو ميثاق وطني جديد للهوية والانتماء
من الضروري اليوم صياغة ميثاق وطني للهوية والمواطنة، يُعيد تحديد المسؤوليات، ويُدرج احترام الرموز في سلوك الدولة والمجتمع.
يجب أن نُعلّم أبناءنا أن:
العلم ليس زينةً للاحتفالات، بل عهدٌ بين المواطن والدولة.
الوطن لا يُختصر في الأشخاص، بل في القيم التي تحفظ كرامة الجميع.
الهوية المغربية مرنة، لكنها لا تنحني أمام الاستهانة أو اللامبالاة.
الخاتمة: الوطن أكبر من الجميع
أيها المواطنون والمواطنات،
إن الوطن حين يُهان في رمزه، يختبر فينا معدن الوفاء.
وإن المسؤول الذي يجلس على العلم، حتى عن غير قصد، عليه أن يعتذر للوطن قبل أن يعتذر للناس.
لأن العلم ليس قماشًا يُجلس عليه، بل تاريخًا يُقدَّس ويُحتضن.
فلنكن جميعًا، أفرادًا ومؤسسات، على قدر هذه المسؤولية الأخلاقية والتربوية والوطنية.
فالمغرب وطنٌ شامخ، علمه خط أحمر، وولاؤنا له لا يُساوَم.
* ذ. محمد ازوين
رئيس المنظمة الدولية للسلام والتعايش بين الشعوب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى