بيان جمعية هيئات المحامين بالمغرب، أو حين تقف المحاماة في مواجهة إخضاع العدالة
الميزان/ أكادير: الدكتور الحسين بكار السباعي
لم يعد الجدل الدائر حول مشروع القانون رقم 66.23 المنظم لمهنة المحاماة مجرد نقاش مهني عابر، بل تحول إلى لحظة كاشفة لطبيعة التصورات المتصارعة حول العدالة، وحدود السلطة وموقع الدفاع داخل الدولة. فقد جاء بلاغ جمعية هيئات المحامين بالمغرب ليعلن، بلغة هادئة في ظاهرها وحاسمة في عمقها، أن الأمر لم يعد يتعلق بتعديل تقني أو إختلاف في تأويل المفاهيم ، وإنما بمساس جوهري بأسس المهنة ووظيفتها الدستورية، وفي مقدمتها الإستقلالية وحصانة المحامي وحرية الدفاع.
إن البلاغ وفي جوهره، وإن كان لا يرفض بعض المقتضيات المتفرقة، غير أنه ينزع المشروعية عن الصيغة المعروضة برمتها، معتبرا أنها تعكس تصور جديد للمحاماة لا كشريك في تحقيق العدالة، بل كفاعل خاضع لمنطق الضبط والمراقبة. وهو رفض يتجاوز منطق المطالب الفئوية، ليؤسس لنقاش أعمق حول التوازن المؤسساتي داخل منظومة العدالة، فحين تمنح للنيابة العامة باعتبارها سلطة متابعة وإتهام، صلاحيات مباشرة أو غير مباشرة في التأثير على المسار التأديبي للمحامي، بما يخل بالتوازن الطبيعي للمحاكمة العادلة.
وما يزيد من خطورة الوضع ليس فقط مضمون النص، بل الطريقة التي أُخرج بها إلى الوجود. فالبلاغ يشير إلى إختلال مسار الحوار، وإلى وجود فجوة خطيرة بين ما تم التوافق حوله داخل جلسات التشاور وما إنتهى إليه المشروع في صيغته النهائية ومأنه مشروع مسودة أعد من قبل. الأمر الذي يطرح سؤال الثقة في آليات الحوار المؤسساتي، ويغذي الإحساس بأن التشاور كان شكلي، وأن القرار الحقيقي اتخذ خارج فضاءات التفاوض، في تعارض صريح مع روح المقاربة التشاركية التي يفترض أن تؤطر إصلاح من هذا الحجم.
ولعل المفارقة الأشد وقعا في هذا الباب، أن المشروع ينسبه البعض إلى وزير للعدل هو في الأصل محام، وابن المهنة التي راكمت تاريخ طويل من الدفاع عن إستقلالها في مواجهة كل أشكال الترويض رغم أن ما جاء في المسودة مثيرة هذا النقاش اكبر من وزير العل نفسه. وهو ما فتح الباب أمام تساؤلات مشروعة، فهل ثم إستدعاء “ابن الدار” لتمرير ما استعصى على قبول تمريره من سبقوه؟ أم أن منطق الوظيفة السياسية غلب منطق الإنتماء المهني، في سياق عام يتسم بتوسيع آليات الرقابة وتشديد القبضة التنظيمية على الفاعلين؟
فمهما كانت الإجابة، فمن المؤكد أن الرهان على تمرير نص يمس جوهر المحاماة عبر وزير من داخلها كان رهانا غير محسوب. فالمحاماة في المغرب ليست مجرد مهنة منظمة بنصوص، بل ذاكرة نضالية جماعية، تشكلت في تماس دائم مع قضايا الحرية والحق والدفاع عن المجتمع والوطن. وأي نص يفسر منه نزوع نحو إخضاع الدفاع لسلطة خصمه الشريف و الطبيعي، حتى وإن غلف بخطاب التخليق وربط المسؤولية بالمحاسبة، سيستقبل لا محالة بإعتباره تهديدا لمستقبل المحاماة لا تنظيما لها .
إن إستدعاء مفهوم المحاسبة على وجاهته، لا يمكن أن يكون مبررا لتقويض الضمانات الجوهرية للدفاع. فإستقلال المحاماة ليس امتياز مهني ولم يكن أبدا، بل شرط موضوعي لعدالة متوازنة، وحق أصيل للمتقاضي قبل أن يكون حق للمحامي. وحين يتحول المحامي إلى فاعل يشتغل تحت هاجس التوقيف أو المتابعة بطلب من جهة الإتهام، فإن الخاسر الحقيقي ليس المهنة وحدها، بل الثقة في العدالة برمتها.
ومن وجهة نظرنا وبقراءتنا وتحليلنا المتواضع لبيان جمعية هيئات المحامين بالمغرب، نرى أن هذا المشروع يقف اليوم في مفترق الطريق الحاسم، فإما أن يعاد النظر فيه بجرأة سياسية، عبر فتح حوار حقيقي يعيد الإعتبار للتنظيم الذاتي للمهنة ويحصن إستقلالها، وإما أن يدفع في اتجاه تمريره بولادة قيصرية، بما يحمله ذلك من مخاطر تصعيد مهني، وإحتقان مؤسساتي، وتآكل بطيء لروح الدفاع. أخطر السيناريوهات، فهو إنتاج عدالة “منضبطة” من حيث الشكل، فاقدة لتوازنها من حيث المضمون، حينها يصبح الدفاع مجرد صدى خافت بدل صوت قوي وحر.
ختاما، إن بلاغ جمعية هيئات المحامين ليس بيان غضب، بل نداء مسؤولية، وتذكير بأن إصلاح العدالة لا يقاس بمدى تشديد الرقابة، بل بقدرة المنظومة على صون التوازن بين سلطاتها. فالدفاع حين يحاصر، لا يضعف المحامي فقط، بل يضعف المجتمع في مواجهة التعسف والشطط. ومن ينسى هذه الحقيقة، وهو يشرع قواعد قانونية، إنما يضعف العدالة باسم إصلاحها، ويغتال دولة الحق بالقانون.
* د/ الحسين بكار السباعي
محام بهيئة المحامين بأكادير وكلميم والعيون .
مقبول للترافع لدى محكمة النقض.