
almizan.ma
الحكمة الحادية عشرة
(ادْفِنْ وُجودَكَ في أَرْضَ الخُمولِ ، فَما نَبَتَ مِمّا لَمْ يُدْفَنْ لاَ يَتِمُّ نِتَاجُه)
تعريفات:
الدَّفْنُ: السَّتْر والمُواراة. دَفَنِه يَدْفِنُه دَفْنا وادَّفَنه فاندَفَن وتَدَفَّن فهو مَدْفون ودَفِين، والجمع أدفان. ودَفَنْتَ نفسَك في حياتك: تعبير يقال للخامل.
الخمول: خمَلَ يَخمُل، خُمولاً خَمْلٌ، فهو خامِل. خَمَلَ الرَّجُلُ: خَفِيَ فَلَمْ يُعْرَفْ وَلَمْ يُذْكَرْ. خمول الصَّوت: انخفاضه وفي الحديث: “اذكروا الله ذكراً خاملاً” أي خافضًا. وخمول الذِّكر: ضعة الشأن وسفالة المنزلة، وعدم الذكر في الناس، والخامل الذي لا ذكر له في الناس لا بعلم ولا بفضل ولا بنحو ذلك.
وفي اصطلاح القوم الخمول: نقيض طلب انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم إلا من شهره الله تعالى لنشر دينه من غير تكلف طلب الشهرة منه. قال بعض الحكماء: الخمول نعمة والنفس تأباه والظهور نقمة والنفس تهواه.
نَتَاج: مصدر نَتَجَ: ثمرة الشّيء والعائد منه. وهي غلته. والفاعل منه: ناتجون ونواتجُ، المؤنث: ناتِجة، والجمع للمؤنث: ناتجات ونواتج.
السبيل لتحقيق الإخلاص في الحكمة السابقة، “الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها”، يكون بدفن النفس في أرض الخمول كما يدفن الميت بالتغطية التامة. كناية على عدم الظهور وإيثار التستر لكونه معينا على التحقق بالإخلاص بخلاف حب الظهور فإنه من جملة القواطع القاصمة للظهور. والشهرة لا تتوافق وتحقيق الإخلاص في حق المبتدئين بخلاف من رسخ قدمه في بحار معرفة الرب المعبود وتخلص من دقيق الرياء لكونه يقدح في إخلاص العبد على اختلاف مراتبه. وبقدر التحقق بوصف الخمول يتحقق مقام الإخلاص، ليترقى به إلى مقام “سر الإخلاص “وهو التخلّص من رؤية الأعمال.
فالشهرة، وانتشار الصيت ومحبة الجاه من أعظم حظوظ النفس المأمور بتركها والمجاهدة فيها، وهي من قواطع وصول هداياك إلى سيدك ومولاك ” والأَعْمال أَنْتَ مُهديها إلَيهِ. ” وذلك مناقض للعبودية التي طلبت منك ” فتَقصيرُكَ فيما طُلِبَ مِنْكَ دَليلٌ عَلى انْطِماسِ البَصيرَةِ مِنْكَ” مع تحققك بآدب سبق فضله عليك “أَينَ ما تُهْديهَ إلَيهَ مِمَّا هُوُ مورده عَلَيْكَ.
وقد ورد فى مدح الخمول، وذم الشهرة آيات و أحادث عن النبي صلى الله عليه وسلم نذكر منها قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا) . وقوله تعالى: ( يأيها الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، ذُلَ رَحْمَةٍ وَلينِ وَعَطْفٍ وَشَفَقَةٍ وَإِخْبَاتٍ وَالِانْقِيَادِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلُولٌ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْمُؤْمِنِ كَالْجَمَلِ الذَّلُولِ. وَالْمُنَافِقُ وَالْفَاسِقُ ذَلِيلٌ» ذُلَّ الْهَوَانِ الَّذِي صَاحِبُهُ ذَلِيلٌ.
وكذلك ما روى البخاري وغيرُه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ للهِ عِبادًا لَو أَقسَمُوا على اللهِ لأَبَرَّهُم) أي يُعطيهِم ويُحقِّقُ مُرادَهم كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم وغيرُه (رُبَّ أَشعَثَ أَغْبرَ ذِي طِمْرَينِ مَدفُوعٍ بالأبوابِ لَو أَقسَمَ على اللهِ لأَبَرَّهُ).
وَعَنْ أَبِي أمامه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ (قليل المال ) ذُو حَظٍّ مِنَ الصَّلَاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضًا فِي النَّاسِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافًا فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ “، ثُمَّ نَقَرَ بِإِصْبَعَيْهِ فَقَالَ: ” عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ قَلَّتْ بَوَاكِيهِ قَلَّ تُرَاثُهُ ” وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ فَوَجَدَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَاعِدًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَبْكِي ، فَقَالَ مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ: يُبْكِينِي شَيْءٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ سَمِعْتُهُ َيقُولُ: إِنَّ يَسِيرًا مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأَبْرَارَ الأَخْفِيَاءَ الأَتْقِيَاءَ الَّذِينَ إِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الدُّجَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ.
وكذلك حديث أويس القرني: فعن أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ إِذا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمنِ سأَلَهُمْ: “أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟” حتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ، فَقَالَ لَهُ: “أَنْتَ أُوَيْس بْنُ عامِرٍ؟” قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟” قَالَ: نعَمْ، قَالَ: “فكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرِئْتَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟” قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “لَكَ والِدَةٌ؟” قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه ﷺ يقول: يَأْتِي علَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُو بِها بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّه لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ، فَاسْتَغْفِرْ لي”، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: “أَيْنَ تُرِيدُ؟” قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: “أَلا أَكْتُبُ لَكَ إِلى عَامِلهَا؟” قَالَ: أَكُونُ في غَبْراءِ النَّاسِ أَحبُّ إِلَيَّ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ العَامِ المُقبل حجَّ رجلٌ من أشرافهم، فوافى عُمَرَ، فَسَألَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، فَقَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ البيت، قليل المتاع.
ونذكر من أقوال السلف رحمهم الله، قول إبراهيم بن أدهم: “ما صدق من أحب الشهرة”، وقول أيوب السختياني: “والله ما صدق الله عبدٌ إلا سرّه ألا يُشعر بمكانه”، والفضيل في قوله: “بلغني أن الله عزّ وجلّ يقول في بعض ما يمن به على عبده: ألم أنعم عليك؟ ألم أسترك؟ ألم أخمل ذكرك؟” وكذلك قول بشر بن الحارث: “أخمل ذكرك، وأطب مطعمك”.
وقال أبو طالب المكي: “الإخلاص عند المخلصين إخراج الخلق من معاملة الحق، وأول الخلق النفس” وَفَسَادُ الأعمال إِنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ جهة تَوَسُّطِ الْخَلْقِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَإما من جهة تَوَسُّطِ النَّفْسِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ خَلْقِهِ. فَمَتَى عَزَلْتَ الْخَلْقَ، حَالَ كَوْنِكَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَزَلْتَ النَّفْسَ، حَالَ كَوْنِكَ مَعَ الْخَلْقِ، فَقَدْ فُزْتَ بِكُلِّ مَا شَمَّر إِلَيْهِ السالكون وهو عين ما أشار إليه عَبْدُ الْقَادِرِ الْجيلَانِيُّ بقوله: كُنْ مَعَ الْحَقِّ بِلَا خَلْقٍ. وَمَعَ الْخَلْقِ بِلَا نَفْسٍ. ومن لم يكن بهذه المثابة لم ينفك أن تدعوه نفسه دعاء خفيّا إلى صبغ عمله بالكبر أو بالرياء انصباغا لا يتفطّن له يحول بينه وبين إتمام نتاجه.:
فمتى التزم العبد بهذه الممارسات وتريض على هذه الرياضات، تكيفت بها نفسه وصارت له صفات ذاتية تموت معها دواعي النفس ويحيى القلب بربه ومعه، ويقرب من حضرة مولاه، ويجتنى ثمرة غرسه، على غاية الكمال والتمام. وتلك ثمرة التأسي بالأسوة الحسنة فقد «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَيِّنَ الْمُؤْنَةِ، لَيِّنَ الْخُلُقِ. كَرِيمَ الطَّبْعِ. جَمِيلَ الْمُعَاشَرَةِ. طَلْقَ الْوَجْهِ بَسَّامًا، مُتَوَاضِعًا مِنْ غَيْرِ ذِلَّةٍ، جَوَادًا مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، رَقِيقَ الْقَلْبِ رَحِيمًا بِكُلِّ مُسْلِمٍ خَافِضَ الْجَنَاحِ لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيِّنَ الْجَانِبِ لَهُمْ». وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ – أَوْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ – تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ».