الفقه والشريعةمنوعات

تيسير الحكم العطائية 12

الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور لرزق

almizan.ma

الحكمة الثانية عشرة
(ما نَفَعَ القَلْبَ شيء مِثْلُ عُزْلةٍ يَدْخُلُ بِها مَيْدانَ فِكْرَةٍ ).
تعريفات:
القلب: يراد به هنا القوة القابلة للمفهومات.
العزلة: انقطاع عن العالم. عَزَل الشَّيءَ عن غيره: فَصَله عن اتّحاده مع آخر، أَفْرَزهُ. والمقصود هنا الانفراد عن الخلق حقيقة أو حالا مع ملابستهم ومخالطتهم.
وهي بذلك على أشكال ثلاثة:
• منعزل بجسده لا بقلبه: وهي عزلة عن الناس ولكن القلب منشغل بدنياهم. صاحبها يترجى السلامة من علائق المخالطة مع تعرضه لنفحات ربه، مثل الذاكر بلسانه في خلوته دون حضور قلبه. والعبرة بالقلب لا بالجثث.
• منعزل بقلبه دون جسده: وهو حال الكمل من السالكين قلوبهم ساجدة بين يدي ربهم لا يشغلهم عنه شاغل (من الأغيار).
• منعزل بقلبه وبجسده: وذلك على ثلاث درجات:
منعزل سالم: قائم بواجبات الوقت مع سلامة الناس منه.
منعزل غانم: متحفظ في السنة مع الجد في العمل.
منعزل متنعم: متحقق بالأحوال متبر من المقال.
ميدان: ساحة، أرضٌ متّسعة معدّة للسِّباق والرِّياضة ونحوهما أو تكون ملتقى شوارع متعدِّدة. وهنا استعير للفكر في مجالاته.
فِكر: الجمع: أفكار. والفِكْرُ: إِعمالُ العقلِ في المعلوم للوصَول إلى معرفة مجهول.
تزكية النفوس أصعب وأشد من علاج الأبدان، ولما كان أصل الداء الأخلاط كانت العزلة للقلب كالحمية للمعدة. فالعزلة من أنفع العلاجات للقلب لتفريغه من الأغيار وعمارته بالله، ولا عبرة إلا بعزلة للقلب مصحوبة بفكرة جالبة لأنوار التعرف، تعرف العبد قدر نفسه، وتدله على ربه فيزيد افتقاره، ويتحقق ذله واضطراره بتجريد باطنه وخلوصه من شوائب الشواغل والحظوظ من كدر الدنيا والاشتغال ﺑﻬا وعلائقها التي تعوق الأرواح عن ديار الأفراح. فذلك مراده وقصده ومبتغاه إلا أن الأمر لا يخل من قواطع ومعوقات. وجنة القلب العاجلة محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، والخلطة من أكبر مفسدات القلب لكونها قاطعة ومعيقة له عن سيره إلى مقصده. فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم يوجب له تشتتا وتفرقا وغما يشغله عن الله والدار الآخرة.
وهل آفة الناس إلا الناس (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ). فهل كان شيء أضر على أبي طالب عند الوفاة من قرناء السوء، فلم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد.
والضابط هنا أن يخالط الناس في الخير فقط ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات. فإذا دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنه اعتزالهم فليكن فيهم حاضرا بجسده، سالا لقلبه من بينهم كسل الشعرة من العجين ليرقى به إلى الملأ الأعلى يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية الزكية.
ومن اشتغل بتفريغ القلب بالتفكر بأعلى الفكر وأجلها وأنفعها، وهو ما كان لله والدار الآخرة، ملتمسا ساعات الصفاء مع الله تعالى وأوقات النفحات الإلهية فتح له باب الأنس بالله فلا شيء أشوق إليه من ذلك فإﻧﻬا تجمع عليه قوى قلبه وإرادته وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه وتشت قلبه فيأنس ﺑﻬا ويستوحش من الخلق ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بانكسار القلب بكليته بين يدي ربه بحيث لا يكاد يشبع منها. وكلما وجد من نفسه التفاتا إلى غيره ردها بخطام ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً )، فينصبغ القلب بين يدي خالقه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، وينجذب إليه بكليته ويزهد في التعلقات الفانية، فحينئذ يجتمع قلبه وخواطره وحديث نفسه على إرادة ربه وطلبه والشوق إليه.
وأسمى هذه الفكر. الفكرة في كتابه المسطور، وتدبره. والفكرة في كونه المنظور وهي آياته المشهودة. ثم الفكرة في آلائه، وإحسانه، وإنعامه على خلقه. والفكرة في عيوب النفس وآفاتها وفي عيوب العمل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى