السياسيةقضايا المجتمعكتاب الراىمنوعات

كرة القدم… مرآة الذات العربية بين الأخوة والفتنة

الميزان/ الدار البيضاء بقلم: محمد ازوين

almizan.ma

كرة القدم… مرآة الذات العربية بين الأخوة والفتنة
الميزان/ الدار البيضاء بقلم: محمد ازوين*
ليست كرة القدم مجرد لعبة. هذه العبارة التي تبدو للوهلة الأولى مبتذلة ومرهقة من كثرة تكرارها، تتأكد راهنيتها كلما وجد العرب أنفسهم أمام حدث رياضي كبير. فكل تظاهرة كروية—وأبرزها اليوم كأس العرب في قطر—تكشف عن حقيقة صادمة، لكنها ضرورية لفهم الذات الجماعية العربية: إن الرياضة ليست مجالاً للمرح فقط، بل حقلٌ تُعاد فيه صياغة الهويات، وتُستثار فيه العواطف، وتطفو على السطح كل التوترات التي اعتدنا إخفاءها خلف شعارات الوحدة والأخوة والمصير المشترك.
وما لم ندرك هذا المعنى، سيظل أي حديث عن الأخوة العربية مجرد أمنيات لا تجد طريقها إلى الواقع.
فاليوم، وفي زمن يفترض أن تتجلى فيه أشرف معاني التضامن بين أبناء الأمة الواحدة، نشهد انفجاراً في الخطاب العدائي بين جماهير عربية تنتمي للدين نفسه، واللغة نفسها، والتاريخ نفسه. والأدهى من ذلك أن هذا الانفجار لا يحدث بين خصوم جيوسياسيين، بل بين شعوب يفترض أنها أقرب إلى بعضها من أي أحد آخر في العالم.
إن ما تابعناه من تهجمات، وسخرية، وتنمر، وتحقير متبادل، وما رافقه من حملات تضليل إعلامي على منصات التواصل، يمثل لحظة اختبار حقيقية للعقل العربي. لحظة تبين لنا أن الخلل أعمق مما نتصور، وأن المشكلة ليست في الكرة، بل في الطريقة التي نفهم بها أنفسنا والعالم.
من هنا تأتي هذه الافتتاحية، لا لتبكيت أحد، ولا لاتهام شعب، ولا لمحاباة آخر… بل لتقديم قراءة تحليلية موضوعية مبنية على دراسات علم الاجتماع السياسي، وعلم النفس الجمعي، وبحوث الهويات والفضاءات الرقمية، مع الاستناد إلى مراجع أكاديمية موثوقة.
هدفها واحد: فتح نقاش عربي صريح حول أنفسنا، قبل أن نفتح نقاشاً حول الآخرين.
الفصل الأول: حين تتحول الرياضة إلى مرآة للوعي العربي
1. الرياضة كتعريف للهوية: من بورديو إلى غيوم فافرو
منذ عقود يؤكد علماء الاجتماع أن الرياضة ليست نشاطاً ثانوياً، بل فضاء لإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية والسياسية. وأهم من سجل ذلك هو عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو في دراسته المرجعية:
Bourdieu, Pierre. How Can One Be a Sports Fan ? (1998)
https://press.uchicago.edu/ucp/books/book/chicago/H/bo3627094.html
يرى بورديو أن الجماهير لا تذهب إلى الملعب من أجل اللعب، بل من أجل تأكيد الانتماء. وهذا الانتماء قد يكون للوطن، أو المدينة، أو القبيلة، أو حتى للنفس المضطربة الباحثة عن معنى.
وعندما يختلّ ميزان الهوية في مجتمع ما، تتحول الرياضة إلى ساحة انفجار، لا إلى فضاء تسامح.
2. في العالم العربي: كرة القدم بوابة إلى ما هو أعمق
خلافاً للمجتمعات الأكثر استقراراً، حيث الرياضة مجرد ترفيه، نجد في المنطقة العربية أن:
الإحباط السياسي
الصراعات الإقليمية
انكسار المشاريع الوحدوية
تراجع القيم الأخلاقية
سياسات الاستقطاب الإعلامي
كلّها تنتقل إلى الملاعب والمنصات الرقمية.
وتشير دراسة صادرة عن Qatar University – Center for Social Studies (2020) بعنوان:
Arab Social Behavior in Sports
أن المنافسات الرياضية بين الشعوب العربية تكشف عن “توترات خام كانت مختبئة خلف الخطاب الرسمي”.
3. كأس العرب: مشروع للوحدة تحوّل إلى لحظة كشف
نظمت قطر هذه التظاهرة بروح سامية: جمع العرب في أجواء احتفالية.
لكن الحدث سرعان ما تحول إلى سطح يكشف ما في القاع:
حملات سخرية
تلميحات عنصرية
ازدراء متبادل
شتائم وطنية
تعميمات مدمرة حول الشعوب
وقد وثقت مجلة Social Media & Society (2022) أن التظاهرات الرياضية ذات الطابع القومي تزيد الاستقطاب الرقمي بنسبة 40%.
هذا لا يعيب الرياضة… بل يفضح ما خبّأته السياسة والتاريخ والثقافة.
الفصل الثاني: عرب آسيا وعرب شمال إفريقيا… أزمة قراءة لا أزمة شعوب
1. سوء فهم تاريخي أكثر منه صراع حقيقي
العلاقة بين مناطق الوطن العربي ليست علاقة عداء بقدر ما هي علاقة عدم معرفة.
فالشعوب لا تقرأ تاريخ بعضها البعض، ولا تعرف ثقافاتها، ولا تتبادل إعلاماً موضوعياً، بل تعيش على الصور النمطية المتوارثة.
2. الإعلام وتأبيد الانقسام
الإعلام الرياضي التجاري لا يكاد يقاوم فرصة تأجيج الصراع، لأنه يعيش على:
الإثارة
الحماسة
الاستقطاب
اللعب بالمشاعر
وهو ما بيّنته دراسة:
UNESCO – Sport, Media and Peacebuilding (2021)
https://www.unesco.org/en/sport
3. منصات التواصل: حين يصبح الجهل وقوداً للفتنة
المنصات الرقمية—وخاصة تويتر وتيك توك—تقوم على خوارزميات تشجع المحتوى المتطرف لأنه يجلب التفاعل.
وهكذا، بدلاً من أن تصبح كأس العرب فرصة للتقارب، صارت بعض صفحاتها حطباً لنار الكراهية.
4. هل المشكلة في الشعوب؟ كلا. المشكلة في الثقافة المتداولة
فالعربي، سواء كان من الخليج أو من المغرب، ليس عدواً لأخيه.
لكن الخطاب السائد يربّي الأذهان على:
الاستعلاء
التعصب
جلد الذات
جلد الآخر
واحتقار المختلف
وهذا ما أشار إليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في بنية العقل العربي.
الفصل الثالث: الأزمة الأخلاقية في الوعي العربي
1. حين يصفّق غير المسلم… ويتجاهل المسلم
كما ذكرتَ في ملاحظتك، قد يقرأ مسيحي أو يهودي مقالاً يدعو للتسامح فيصفّق له ويعجب به، بينما يقرأه بعض المسلمين—وليس كلهم—فلا يزداد إلا تصلباً.
هذه المفارقة ليست دينية، بل نفسية ثقافية.
فالقيم التي نرفعها في الخطاب لا نطبقها في الواقع.
نقرأ: «وقولوا للناس حسناً»
لكننا نقول في مواقع التواصل أسوأ ما يمكن أن يُقال.
نردد: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (صحيح الأدب المفرد)
لكننا نجعل الرياضة باباً للفتنة، لا مكارم الأخلاق.
2. إساءة فهم النصوص الدينية
قول الله تعالى:
﴿الأعراب أشد كفراً ونفاقاً﴾ — التوبة 97
تستخدمه بعض الخطابات اليوم لتعميم الحكم على العرب.
لكن المفسرين أجمعوا أن الآية تتحدث عن فئة محددة في زمن النبوة، وليس عن كل العرب عبر التاريخ:
تفسير الطبري:
تفسير ابن كثير
تفسير القرطبي
ومع ذلك، يتم اقتطاع النص من سياقه، واستعماله كسلاح نفسي ضد الذات.
3. أزمة الأخلاق قبل أزمة الرياضة
إن ما نراه اليوم هو انهيار في:
أخلاق النقاش
أدب الحوار
احترام الآخر
مبدأ “اختلاف لا يفسد للود قضية”
وهذا الانهيار يجعل أي مباراة كرة قدم فرصة لتفريغ الغضب.
الفصل الرابع: تشخيص علمي للسلوك الجماهيري العربي
1. علم النفس الجمعي: لماذا نفقد السيطرة في الرياضة؟
وفق نظرية “Deindividuation” لعالِم النفس فيليب زيمباردو، يفقد الفرد في الجمهور جزءاً من هويته الفردية، ويتحول إلى كائن جماعي متوتر، سريع الانفعال.
وهذا يحدث بشدة في:
الجماهير العربية
المنصات الرقمية
الأحداث ذات الطابع القومي
2. العصبية العربية: إرث غير محسوم
لا تزال مظاهر:
القبلية
الجهوية
الطائفية
القومية المتعصبة
تسكن العقل الجمعي، وتظهر في الرياضة لأنها الفضاء الأكثر تحرراً من الرقابة.
3. الإعلام الجديد وصناعة الوهم
السوشيال ميديا تحوّل أي خلاف بسيط إلى أزمة كبرى.
وقد بيّنت دراسة مجلة New Media & Society (2022) أنّ المحتوى السلبي ينتشر بمعدل الضعف مقارنة بالمحتوى الإيجابي.
الفصل الخامس: رؤية عملية لبناء وعي رياضي عربي جديد
1. إعادة تعريف الرياضة عربياً
نحتاج خطاباً رسمياً وثقافياً يقول بوضوح:
الرياضة ليست حرباً، بل أخلاق وتنافس شريف.
2. ميثاق شرف إعلامي رياضي
يلزم القنوات والمحللين بعدم:
إهانة الشعوب
التحريض
تشجيع السخرية
شيطنة الفرق
3. إصلاح الفضاء الرقمي
اقتراح:
منصات رسمية للرصد الأخلاقي
حملات لمكافحة خطاب الكراهية الرياضية
تشجيع المحتوى الإيجابي
4. مبادرات شعبية عربية
مثل:
لقاءات شبابية بين الجماهير
مباريات رمزية بين المناطق
مهرجانات ثقافية ترافق البطولات
5. اعتماد خبراء علم الاجتماع
لفهم جذور التوترات وليس فقط إدارتها.
خاتمة
إن كأس العرب ليست مجرد بطولة.
إنها لحظة اختبار كبرى.
اختبار لمدى قدرتنا على احترام بعضنا البعض، وعلى تحويل الرياضة إلى مساحة للتقارب.
لقد رأينا وجهاً قبيحاً من الخطاب العربي خلال الأيام الماضية، لكن هذا الوجه ليس حقيقة العرب، بل حقيقة المرحلة.
فالأمم تُبنى بالمراجعة والنقد الذاتي، لا بالتجميل، ولا بالصمت.
وإذا أردنا أن نكون أمة قوية، علينا أن نبدأ من الأساس: الأخلاق.
فلا وحدة بدون أخلاق، ولا أخوة بدون احترام، ولا رياضة بدون روح رياضية.
والعرب—بكل تنوعهم وامتدادهم الجغرافي—لن يربحوا شيئاً من كراهية بعضهم البعض.
فإذا خسروا في الأخلاق، لن تنفعهم أيّ نتيجة في أيّ مباراة.
إنني، بوصفي كاتباً ومحللاً سياسياً عربياً، أدعو من خلال هذه الافتتاحية إلى فتح نقاش عربي حقيقي حول معنى أن نكون عرباً.
هل نكون أبناء وطن لغوي واحد نتناحر؟
أم أبناء حضارة واحدة نتآزر؟
الجواب ليس في الماضي، بل في المستقبل الذي نريد بناءه.
ولعل الرياضة، بما لها من شعبية وتأثير، هي أفضل نقطة انطلاق.
فلتكن كرة القدم جسرًا لا خندقًا…
باباً لا جداراً…
فرصة لا لعنة…
ولنعلن بصدق أن العرب قادرون على أن يتغيروا، وأن يتحابوا، وأن يبنوا، وأن يتجاوزوا كل ما فرّقهم.
فالفتنة ليست قدراً،
والأخوة ليست وهماً،
والوحدة ليست مستحيلة…
إنما تحتاج إلى إرادة، وأدب، ووعي.

* رئيس المنظمة الدولية للسلام والتعايش بين الشعوب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى