كتاب الراى

أية آفاق أمام مسرح الدار البيضاء المنتظر ؟

العميد عبد القادر البدوي

almizan.ma

أية آفاق أمام مسرح الدار البيضاء المنتظر؟
بقلم : الأستاذ عبد القادر البدوي

في تاريخ الأمم و الشعوب الحية ، فترات قد تتسم بنوع من الضبابية و الارتجال ، ضبابية تحول دون اتضاح الأهداف و الغايات الكبرى ، و ارتجال يؤدي بالضرورة إلى التخبط و تداخل الخطوات و المراحل التي تشكل المسار الذي تبغي كل أمة أن تعيش عليه حاضرها و أن تتطلع إلى مستقبل واحد و أفضل..

في بلدنا المغرب ، لا أحد ينكر الكثير من الإنجازات الملحوظة التي أنجزت في ميادين و مجالات مختلفة ، إذ في السياسة كما في الاقتصاد و المجال الاجتماعي اتخذت العديد من الإجراءات و من المبادرات الخلاقة . و لنا في ما عاشه المغرب في العشرية الأخيرة الكثير من الدلائل المشجعة .

لكن ماذا عن حالتنا الثقافية ؟ و ماذا عن واقعنا الفني ؟ هل أولينا الاهتمام الرسمي اللازم لقضايانا الثقافية و للمعضلات الفنية العويصة التي لم يزدها تعاقب سنوات و عقود الاستقلال إلا تفاقما و استفحالاَ؟

الملاحظ الموضوعي للواقع الثقافي و الفني بالمغرب، يخرج بالعديد من الاستنتاجات السلبية ، لعل في مقدمتها أننا لم نستحضر دور الثقافة في التكوين وإعداد المواطن في تطور و نهضة البلد منذ الأيام الأولى لحصولنا على الاستقلال ، و للأسف الشديد لا يزال استصغار الثقافي و تهميشه و جعله لاحقا للعامل السياسي سائدا لحد الآن ، و حتى نكون موضوعيين فإن مسؤولية هذا الإهمال لا تتحمله الجهات الرسمية فقط بل إن الأحزاب السياسية و خصوصا التي تشكل الصف التقدمي و النقابات العمالية و الجمعيات الثقافية و الفنية الجادة تتحمل هي الأخرى جزءا هاما من مسؤولية هذا الواقع الفني و الثقافي المتخلف عن مسايرة و طموحات المغاربة في أن يحظوا بثقافة و فنون وطنية تترجم حدود الهوية و تحمي المقومات و المقدسات و تنفتح بالقدر اللازم المطلوب على الأخر و هوما يتيح التفاعل عوض الاستيلاب و مظاهر الانبطاح التي هيمنت على مشهدينا الثقافي و الفني.

إن الضبابية و الارتجال لا ينمان إلا عن حيرة قاتلة في طبيعة الاختيارات و طبيعة المهام الوطنية الكبرى التي تتوخاها ، إذ بعد كل هذه العقود من الاستقلال ، ورغم هذا التراكم الكمي و النوعي في الممارسة و الإنتاج و التفاعل لازلنا لا نستطيع الإجابة عن

أسئلة محرجة من قبيل : أي ثقافة و أي فنون نريد أن يستهلكها و ينتجها المواطن المغربي ؟ ماذا نريد من أهداف و غايات من وراء تعاملنا المرحلي الرسمي و الشعبي مع الثقافة و المثقفين و مع الفن والفنانين ؟ هل أنجزنا لحد الآن منجزا ثقافيا واحدا وإنجازا فنيا إبداعيا واحدا نستطيع أن نتفق جميعا حول تجسيده لخصوصياتنا و تاريخنا و قيمنا الدينية و الوطنية و التاريخية ؟

نرى أن طرح أسئلة مباشرة من هذا القبيل هو أفضل منهجية لتوصيف واقعنا الثقافي والفني ، وهي أقرب الطرق إلى تلمس ما خلفته الضبابية المذكورة في البداية من حيرة فكرية و تخبط ذهني و ارتجال واضح في الحسم مع القضايا الشائكة ،

و حتى نبرز بالواضح والمكشوف علاقة كل هذا بما نريد طرحه، نطرح للنقاش و التأمل اليوم ما يتداوله الوسطان الأعلامي و الفني من أخبار حول قرب بداية الأشغال في بناء مسرح الدار البيضاء الكبير ، بعد أن تم تحديد المكان و طرق و وسائل التمويل اللازمة لانجاز هذا الصرح الفني الذي يليق بالدار البيضاء باعتبارها أكبر مدن المملكة و قلب اقتصادها.

و حتى لا يساء فهمنا، فنحن نرحب و نثمن انجاز صرح فني ضخم ينضاف إلى ما لدينا من بنيات فنية تحتية لا يمكن أن نرفضها، و نحن السباقين إلى المطالبة بالمزيد منها لأنها لبنة هامة في أي بناء حضاري. بل نعتبر بناء هذا المسرح الضخم انجازا فنيا ، كانت الحاجة و لا تزال ماسة إلى وجوده خصوصا في عروض الأوبرا أو الملاحم التاريخية التي تفرض وجود مساحات قابلة لتحرك الجموع و الآلات أو الديكورات ، مما يتيح أمام المواطن المغربي عامة و البيضاوي خاصة إمكانية متابعة أعمال قادمة من خارج الحدود و الوقوف على مدى التقدم و التطور الحاصلين في مجال الفرجة و العرض . علما أن موضوع بناء مسرح في قيمة و مستوى و تعداد سكان البيضاء ليس طارئا اليوم ، بل هو موضوع أثير منذ سنوات ، و قد حضر مسرحنا باعتباره فرقة مسرحية احترافية بيضاوية اجتماعا عقد للأمر منذ أزيد من ثلاث سنوات ، و بالضبط أيام إشراف و إدارة الفنانة المسرحية ثريا جبران لوزارة الثقافة و هو الاجتماع الذي عقد بمدرسة الفنون الجميلة و حضره إلى جانب المسئولين في الوزارات الوصية العديد من المهندسين و أعيان المدينة و القليل من المثقفين و الفنانين ، وقد أبدينا فيه وجهة نظرنا في هذا المشروع بكل وضوح و صدق و وضع مصلحة المجال فوق كل اعتبار. وجهة نظرنا كفنانين و حرفيين ، و كمواطنين مغاربة نرتجي خير البلد و تقدمه و ازدهاره ، و كسكان بيضاويين تتلخص في أننا لا نرى مانعا في أن تحظى الدار البيضاء بمسرحها الكبير لو جاء كنتيجة و تتويج لنهضة ثقافية و فنية تتيح لسكان الدار البيضاء سواء في المركز أو في الهوامش و الضواحي تحسين تذوق الآداب و الفنون ، و تتيح لهم بالتالي أدوات التفاعل المباشر و تذوق ما سيقدم للساكنة من فنون راقية بين أحضان المسرح الكبير ،

أما إذا كان بناء المسرح لا يضع كل هاته المتطلبات في الاعتبار أو يرمي فقط إلى تلميع الواجهة التي رأ ينا خطورتها مع بشائر الربيع العربي ، أو مجرد إرضاء لخواطر الأجانب المقيمين بيننا أ و العابرين فذالك موضوع آخر نربأ بمسؤولينا المحليين و الجهويين و الوطنيين أن يقعوا فيه .

لقد تحولت الدار البيضاء الآن الى غابة إسمنتية تتمدد في كل الاتجاهات دون مقومات العيش المطلوب. حيث تقل المساحات الخضراء تدريجيا ، و حيث تنعدم مسارح القرب المعروفة عربيا و دوليا بمسرح الجيب ، أي تلكم المسارح الشعبية الصغيرة التي ينبغي أن تكون متوفرة في كل حي و في كل ضاحية و في كل هامش حتى تضمن للشباب الانخراط في الهم الثقافي و الفني الذي من شأنه أن يصرف أنظارهم عن الإرهاب المنظم و كل الجرائم المتفشية الآن ، ناهيكم عن تقلص الدور التأطيري الهام الذي كانت تقوم به دور الشباب في المدينة رغم قلة أعدادها ، و حتى ما صمد اليوم أوما بقي منها يعيش فراغا قاتلا و انعداما لكل الأدوات و الوسائل البيداغوجية اللازمة . وحتى المركبات الثقافية التابعة لوزارة الثقافة أو التابعة للمقاطعات المحلية لا تقوم بأي دور إشعاعي ، و تكتفي بتسطير برامج هزيلة و لا يطبق حتى النزرالسير منها ، وهي مركبات تستنزف ميزانيات هائلة في التسيير و التدبير دون نتيجة ثقافية أو فنية تذكر . إذ يكفي أن نعترف بأن الدار البيضاء رغم شساعتها قد لا تعرف لياليها تنظيم عرض مسرحي و احد أو لقاء فكري و ثقافي واحد رغم أنها تضم عددا من القاعات و المسارح التي بنيت خارج أماكنها المفترضة ، و قد تمر شهور طويلة على البيضاويين دون اهتمام بالجانب المعرفي الذي يغذي الروح ويقوم الوجدان و يسمو بالانسان من خلال رفع ذائقته الفنية و تسليحه بأدوات التفاعل والنقد و القدرة على الاختيار الصائب. و للأسف الشديد فمقابل هذا الغياب الفظيع لكل ما هو ثقافي و فني و روحي ووجداني يفتح المجال أمام كل الانحرافات و مظاهر الإجرام التي تقض راحة و أمن السكان و التي لا يمكن القضاء عليها أو حتى الحد منها إذا ما اقتصرنا في التصدي لها على العمل الأمني فقط رغم أهميته الظرفية .

واقع الدار البيضاء إذن يقتضي أن نزن هذا المشروع المنتظر انطلاقا من القيمة المضافة التي سيقدمها لهذا الواقع الذي يستشعر كل السكان جفافه و خلوه من أي لحظة إبداع و تواصل اجتماعي أو تفاعل إنساني ، فهل يقبل المنطق أن ننبت بناية ضخمة وسط الدار البيضاء خارج سياقها الاجتماعي و المعرفي . ثم لمن ستفتح أبواب هذا المسرح الضخم ، هل أمام الإبداع الوطني الذي لم يصل فنيا الى مستوى العروض؟ أم هو بناء خاص بالعروض والفنانين الفرنكوفونيين ؟

و اذا كنا لم نحسن توظيف و استغلال ما هو موجود حاليا في بناء و تكوين المواطن، و في جعل الفرجة المسرحية طقسا يوميا لا غنى للسكان عنه ، و اذا كانت بعض القاعات و بعض المسارح و بعض دور الشباب تعيش في فراغ قاتل و في غربة عن وسطها و

محيطها ، فإن الإصلاح الحقيقي يقتضي أن تعالج كل هذه الأمراض البارزة ، وأن نهتم بثقافة و فنون القاعدة الشعبية بدل اهدار المال العام و الوقت و الجهد في أعمال و بناءات لن تجد مصيرا أحسن من مصير وواقع مسارحنا و قاعاتنا و مركباتنا الثقافية التي تعمل وفق منظور متجاوز و متخلف ، وهو العبث الذي نحذر من الوقوع فيه .

إن الضبابية في تحديد طبيعة الأهداف، و في تحديد طبيعة المناهج و الأدوات للوصول إلى أهداف محددة، هو الذي أنتج هذا الواقع المتناقض في البيضاء وفي كل ربوع الوطن دون أن نستفيد لا من تجاربنا نحن. فواقع مسرح مراكش الكبير يسير في نفس الاتجاه الخاطئ ، فالمدينة الحمراء تعج بالمواهب و الفعاليات و الفرق و مكونات المجتمع المدني التي لا تجد مركبات ثقافية و لا مسارح في الأحياء و لا دور شباب فاعلة و لا مراكز التكوين الدائم و مع كل ذلك يظل المسرح مغلقا طيلة السنة إلا من عروض مناسباتية تكون موجهة بالأساس إما للآخر أو تنظيم أنشطة فرنكوفونية لا علاقة لها بواقعنا و مستوانا المحلي بل لتلميع الصورة قصد التسويق الخارجي ، مما يزيد من الهوة الشاسعة الفاصلة بين الطاقات المحلية و هذه الفضاءات الضخمة التي لا يستقيم وجودها مع فكرنا الثقافي و موت مجالنا الفني و تصحر إبداعنا الوطني .

كذلك فإن من نتائج عدم قدرتنا على تحديد الأولويات و ترتيبها في نسق مدروس يوصل إلى النتائج المتوخاة تغييب و تهميش رأي المحترفين و ذوي الاختصاصات عن نقاشات مثل هاته المشاريع . فرأي ذوي التجربة هو القادر على تحديد ماذا نريد ، و كيف نصل إليه و لا نظن أن الذين يتحمسون عاطفيا لانجاز هذا المشروع الضخم يجهلون كل هاته الحقائق و المعطيات الصارخة التي لا تدع مجالا للشك أن الحاجة ماسة الآن الى بناء و تنشيط المراكز الثقافية الموجودة، وإسنادها إلى رجال الميدان و ليس للبيروقراطيين . هي تعزيز البنيات التحتية الفنية في كل المراكز السكانية و خاصة الهوامش و الضواحي ، حيث يشكل هذا الغياب الفظيع البنية الملائمة لنمو التطرف و الإرهاب و كل أشكال الجريمة ، بمسارح صغيرة ( مسارح الجيب حسب المصطلح الغربي ) و بمكتبات و مركبات ثقافية فاعلة و مؤطرة للشباب وراعية لمواهبهم ، و ليس مجرد بنيات فارغة و باردة و صامتة صمت القبور. هي تكوين المتفرج المغربي عامة و البيضاوي خاصة و الرفع من مستوى ذائقته الأدبية و الفنية و مده بالمعرفة التي تخول له الفرز و حسن الاختيار ، و ساعتها يكون بناء مسرح ضخم في سياقه الموضوعي . أما الآن فإن صرف ميزانية بناء المسرح الضخم على الأهداف المذكورة أجدر و أنفع و أجدى للمدينة و للثقافة و للفن و مكسبا لكل المجتمع المغربي .

هل نستوعب الدرس جيدا .. ذلك ما نرجوه لمصلحة الوطن..

       بقلم الأستاذ عبد القادر البدوي سنة 2013

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى