خاطرة “كؤوس خمر بارد على الفؤاد”
الميزان/ الدار البيضاء: الدكتور سعيد الناوي
الثلاثاء 23 دجنبر 2025
..رأيته بأم رأسي، يدخل أصبعي يده اليمنى في كأس خمر يمزج لوني الرمان والزعفران ومكعبات الثلج المربعة البيضاء.. صار يحرك قطع الثلج ثم يدير الكأس مرة ومرتين، ثم ينتظر هنيهة، ثم يقذف جوهر النبيذ في فمه دفعة واحدة، ثم يتبعه بهمسة ودوران فم تعبيرا عن نشوة لا أبلغها ولن تبلغونها أنتم معشر اللاسكارى..،
وكيف تعرف مذاق ما لم تذق، أو تنتشي بشيء تسمع عنه فقط، ولا تتلمسه، وكيف لا يكون ذلك الكأس منعشا معسولا وهم ينتعشون به، وكأنك تحكم عليهم بفقدان الذوق وتحكم لك به، وانت لم تذق، يا محروم!؟
لا تحدثني عن l’hygienne، و قد وضع أصبعيه في الكأس وحرك قطع الثلج.. ففي اليد والأصابع بركة نشهد بصدق القائلين بها، وقد كان جدي يلعق أصابعه إذا انتهى من الطعام، فأنظر وأتساءل “مال جدي على هاد الحالة؟”، ولكني علمت أن يده أفضل من ملاعق الحديد أو الخشب، وفي ذلك بركة، وأنني لا أعلق أصابع يدي، حمقا مني، وكذلك يد البشر كلهم، والسكير من البشر، و للأصابع بصمات، تدل على صاحبها، فتعرف الكأس صاحبها، كما يعرف الفرس راكبه، وما في الكأس، كما في صاحب الكأس، برد وحرارة، وهو القائل “أس س س”؛ دلالة على قمة اللذة فيما أفرغه في فمه دفعة واحدة. !؟
قل لي مثلآ، أن هناك تناقضا ما بين قطع الثلج وهي باردة، وسخونة الكحول، فأقول لك؛ أن ذلك ” بعيد عنك، وفوق تحصيلك العلمي، وأنه مصاف الخبراء في علم الخمرة والنبيذ”، فقد سألتني عن كيف يجتمعان في موضع واحد، و لم تعرف أنهما، يختلفان قبل اللقاء والعناق، ثم يأتلفان بمجرد دورة أو دورتين من الأصابع وتحريك الكأس ودورانه في رقصة خصر جميل براق شفاف.. وها هو في الفم ثم مستقره فيما هو معلوم لدى الجميع ولكنه مجهول عندي وعند معشر اللاسكارى مثلي.
لقد سألت عن شيء ولم تسأل عن ما هو أهم من هذا الشيء!
ولهذا سأحدثك عن شيء آخر أغفلته، وغاب عنك، وعكفت تطعن في السكارى، وتتعجب من تناقض البارد في الثلج والحر في الكحول.
أحدثك عن أمرنا نحن الذين شلت أصابعنا عن تحريك الكأس، وأمر هذه الدنيا التي كلها حر وبرد في موضع واحد، وفي طرفة العين، والزمان.. حر شديد وقر أشد!
كيف لم تر تناقضها وركزت على تناقض البرد في الثلج والحر في الكحول!!
ألا ترى أن من يضع أصبعي إحدى يديه داخل الكأس يصنع دنيا بيده ويسخر منها!؟
أ لا ترى أنه يخلق ما هو مخلوق، من التناقض واللامفهوم واللامعقول في ما هو أكبر من الكأس؟؟
أليس الكأس دنيا صغيرة، ولكنه يختلف عنها في أهم شيء،؟ : في أن الكأس يْشرب ثم عافاك الله يٌبال.. ولكن الدنيا تَشرب وعافاك الله؟ !تَبول !!
أعتذر من شعورك و لكنها الحقيقة؟!
لربما أن شارب الكأس أذكى مني، لأنه هو الفاعل.
لربما أنه حكيم، لأنه متيقن أن دماغه قد ينفجر بسبب تناقض الكأس الكبيرة:” الدنيا “؛ فيؤهل دماغه لتلقي الصدمات،
وكل الصدمات،
ظلم القطة التي التهمت السمكة و كانت تسبح في حوضها الزجاجي، شماتة الأعداء،
وتحالف المتاعب والمصائب
ثقل القدمين ونقصان البصر
وانخفاض دقات القلب
وكل شيء ممسوخ…
ألا أدلك على مسخ آخر؟
ألا تذكر أن مبلغ “عشر آلاف ريال”؛ كان محترما إن لم أقل مهابا؟
ثم صارت “خمسة مائة درهم”؛ فقط كأنها لا شيء!؟
أليس الفرق بين عشرات الآلاف والخمس مائة واضحا جليا!؟
لا تقل لي أنهما في الواقع متشابهان، فتكون من الخاطئين، لأن الألف ألف والمائة مائة، والألف مضاعف المائة لعشرة أضعاف، حتى أصبحت أرى أن خمسين درهما الخضراء أفضل من المائتي درهم الزرقاء، فهذه كالغانية، تخرج ولا ترجع
والأولى عصبة، لا تخرج كلها!؟
ربما أنه مسني بعض السكر، ولو أنني لم تكن لي تجربة مع تحريك الكأس الشفافة و الخمر الرماني الزعفراني اللون.
ربما أن دماغي تعود على الصحو،عفوا على العذاب، فاكتسب مناعة الصبر والسلوان وإنا لله وإنا اليه راجعون ..
سعيد الناوي غفر الله له و تجاوز عنه