آليات الإقناع في الخطاب السياسي:”الاستفهام داخل خطابات حزب الاستقلال”٢
مقدمة:
اعتبر أرسطو الإنسان كائن سياسي، يتميز عن غيره من الكائنات بهذه الخاصية، فالسياسة تنتج عن ميل الإنسان للعيش داخل جماعات منظمة، من خلال استعماله للغة التي تكشف عن ملكات العقل والتفكير، وعليه تعتبر اللغة لدى الانسان، هي الحد الفاصل بين عالم الطبيعة وعالم الثقافة الذي يفتقد له الحيوان نظرا لخضوعه المطلق لبرنامج غريزي وراثي مُحكم، وبالتالي تعد اللغة من دون شك الأداة الأساسية لممارسة السياسة كنظام يدبر العلاقات الانسانية ويحفظ إلى جانب ذلك التوازنات الداخلية في المجتمع، فلا يمكن وجود خطاب سياسي بدون الغاية الرئيسية التي من أجلها وجدت اللغة ألا وهو التواصل.
تقوم اللغة بوظائف سياسية لا يمكن إجمالها أو حصرها، فهي أداة مهمة من أجل الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، كما تساهم في تأسيس نظام ما أو جمعية سياسية، وهي الأداة التي تحرك الأنشطة السياسية والمناظرات والخطابات السياسية(…)
ومن خلال هذا المقال سنحاول الكشف عن أداة لغوية مهمة، وإبراز دورها الحجاجي والبلاغي، وذلك من خلال تحليل خطابات سياسية لمستشار برلماني بحزب الاستقلال.
1. حجاجية السؤال لدى المستشار الاستقلالي فؤاد قديري
يحتل السؤال داخل الخطابات السياسية مكانة كبيرة ويأخذ حيزا مهما وسط أطوارها، فبدون سؤال نكون خارج النقاش ، ويعتبر الخطاب السياسي خطاب إقناعي يهدف إلى حمل المخاطب على القبول والتسليم بصدقية الدعوى عن طريق توظيف آليات كالسؤال الذي يعد الوسيلة الأكثر استخداما في أي مواجهة إقناعية تدور بين مرسل ومتلقي، وأداة فعالة قادرة على مساءلة اعتقادات الطرف الآخر، وبسط قناعته.
إن السؤال في جوهره مشكل يطرح من أجل معالجته، وتمر هذه الأخيرة وفق تفاعل بين الذوات المقصودة به، ويصبح بذلك محركا للخطاب، منتجا لمجموعة من الأقوال الحاسمة للسؤال أو للجواب المناسب عنه.
إذا كان الخطاب السياسي تمثيل للمكان ولجماعة لغوية ولعلاقات اجتماعية، وتمثيل لعلاقة الفرد بالمجتمع الذي يعيش فيه، فإن بناء معظم قضاياه تتوقف على الإنتاج المستمر للأفكار التي يدلي بها المحاجج، وبفضل السؤال نجد الأجوبة التي تطور المعرفة.
وعليه فإن السؤال وخصائصه المعرفية والاستدلالية تجعله متأصلا داخل كل خطاب سياسي.
بالعودة لخطابات المستشار الاستقلالي نجد أن السؤال يتمظهر فيها عبر استفهامات كثيرة ومتعددة، التي تشغل كل أطوارها، فتارة يفتتح بها خطابه، وتارة أخرى يواجه بها من يحاجج، ونجده كذلك يدافع بها عن طرحه، والدكتور طه عبد الرحمن في كتابه “اللسان والميزان” نجده وظف هذه المصطلحات وأسماها (الافتتاح، المواجهة، المدافعة).
إن الاستفهام حسب ما ذكره البلاغين العرب القدامى، هو طلب المتكلم معرفة أمر مجهول لديه، ويقول ابن وهب في هذا الصدد: “ومن الاستفهام ما يكون سؤالا عما لا تعلمه “. لكن داخل خطابات فؤاد قديري نجد أن جملة الاستفهامات الموظفة في كل خطبة لا ترتبط بهذه الغايات، بل يوظفها المخاطب لأغراض إقناعية، فحسب سورل Searle الاستفهام ليس سؤالا مخلصا لأن هذا الأخير لا يتحقق إلا عندما يكون السائل جاهلا بالجواب.
2. أبعاد السؤال داخل خطابات المستشار الاستقلالي
إن معظم خطابات حزب الاستقلال والتي ألقاها المستشار البرلماني “فؤاد قديري” داخل مجلس المستشارين، استهلها بالسؤال الذي اعتبره المدشن الأساس لخطاباته، والمنشط الحاسم لمجراها، ويمكن الاستدلال على ذلك بمقدمات خطاباته التالية:
أثناء تقييم ومناقشة الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة خلال السنة التشريعية 2018-2019 استهل المستشار البرلماني فؤاد قديري خطابه بجملة من الأسئلة نذكر:
أو ظننتم أنكم بالإساءة لحزب الاستقلال ستغطون عجزكم عن تقديم حصيلة مشرفة؟
أو ظننتم أنكم بالإساءة لحزب الاستقلال يمكن أن تحولوا الأرقام الجوفاء والمعطيات المفتقدة لكل شخصية وروح إلى حقائق يمكن يتقبلها المغاربة بقبول حسن؟
هل أنتم واعون بما أقدمتم عليه؟
كما استهل خطابه الذي ألقاه بمجلس المستشارين خلال دورة أبريل 2014-2015 بمجموعة من الأسئلة:
لماذا السيد رئيس الحكومة لم تجعلوا أرقامك مطواع؟
ولماذا لم تخضعوها لسياسة الاقتصادية التي نبتغيها لبلدنا؟
لماذا ارتهنتم بيدها؟ ولماذا جعلتموها تتحكم في سياستكم الحكومية؟
هل معنى هذا أننا سنستمر في سياسة الاستكانة والاستسلام للأمر الواقع؟
هل معنى هذا أننا لن نسلك طريق الإجتهاد والابتكار لإيجاد الحلول التي تتلاءم وطموحات الشعب المغربي؟
هل معنى هذا أننا سنتمادى في نمط عيش يحمل في طياته حيفا كبيرا؟
وفي خطابه الذي ألقاه بخصوص منظومة التعليم افتتحه بأسئلة:
هل يمكن اليوم أن نراهن على منظومة التعليم في ظل الاختلالات التي تعتريها؟
هل يمكن أن نراهن على نفس المنظومة في ظل غياب الاهتمام بنساء ورجال التعليم؟
أ- بعد التقرير:
بعد جرد هذه الأسئلة وتأملها نستشف بجلاء أنها ليست أسئلة استعلام، فهي لا تستخبر لأن المحاور يعلم الجواب مسبقا قبل طرحه، إذا فهذه الأسئلة تعد أسئلة تقريرية، يقول ابن وهب في هذا الصدد: “يكون سؤالا عما تعلمه ليقر لك به” ، ويسعى المحاور بواسطة هذا التقرير الإشهاد على ما يتبنى خصمه، مع العلم أن الخطاب يتم داخل مجلس وبحضور جمهور، كما يهدف المحاور بواسطة سؤال التقرير إلى تأكيد اعتقاد خصمه بوضوح حتى يحصره فيه، درءا لأي تلبيس أو تنصل بعيدين من هذا الاعتقاد، ويتمكن المُخاطِب من أن يلقي خطابه على أرضية واضحة المعالم مفهومة من البداية.
ب- بعد التحضير والإعداد:
إن الأسئلة التي يستهل بها المُحاور خطاباته لا تبتعد عن ما اعتبره ميشال ماير الذي يرى أن هذه الأسئلة هي إعداد الأخرين وتهيئهم، وهذا ما يسعى إليه المخاطِب في هذا السياق، تحضير الخصم واستدراجه وإقحامه من أجل النقاش.
ت- بعد إثارة الخلاف:
يشتمل سؤال الاستفهام كذلك على بعد يتمثل في إثارة الخلاف، لأن معظم هذه الأسئلة تحمل في كنفها مشكلا، وكما هو معلوم أن عملية الإقناع لا تتم إلا حينما تظهر الأسئلة، ولذلك فمعظم القضايا محط السؤال في هذه الخطابات السياسية هي قضايا خلافية تنتج عنه مواقف متعارضة بين المتحاورين ومن أمثلة ذلك:
ما الذي عملت أيديكم وسواعدكم وعقولكم؟
لماذا لم تجعلوا من المغرب بوابة مشروعة في وجه كل مشروع حامل لإمكانيات وقدرات نمو هائلة؟
لماذا تعاملتم كحكومة بذهن خال مع شمولية الاقتصاد؟
لماذا لم تستغلوا ما يدور حولنا اليوم؟
هكذا إذن يعد السؤال حاجة ملحة قبل كل حوار و كل سجال.
ث- بعد الفرجة:
قد يكون السؤال ذو بعد فرجوي هدفه شحن الأجواء وتهيجها، ويظهر هذا جليا حينما قال المستشار البرلماني فؤاد قديري: هل تضنون أن هذه الابتسامة وحدها كافية لتبعث الأمن في نفوس المغاربة وتجعلهم يتقون في كلامكم؟
وعليه فيمكن أن يكون للسؤال في الخطابات السياسية هذا الدور الاستعراضي الفرجوي، خصوصا أن مجموعة من الباحثين في الحجاج يعتبرون أن بعد المسرحة من الوسائل الإقناعية في الحوار.
إذن من أهداف الاستفهام في الخطابات السياسية “شد انتباه الحاضرين”، فالسؤال دائما ما يبحث عن التواصل مع الآخرين، ويؤكد عليهم ضرورة الانتباه إلى ما يجري ويقع.
3. طبيعة السؤال ومقصديته في خطابات فؤاد القديري
أ- السؤال المفوض:
بعد جردنا للاستفهامات التي تتضمنها خطابات المستشار البرلماني فؤاد القديري، نستشف بأنها استفهامات “مفوضة” وليست “محصورة”، وكما هو معلوم أن السؤال المحصور هو “ما حصرت فيه على المجيب أن يجيب إلا ببعض السؤال كقولك: أ لحما أكلت أم خبزا؟ فقد حصرت عليه أن يجيب إلا بأحدهما، أما المفوض فهو كقولك ما أكلت؟ فله أن يقول ما شاء من المأكولات لأنك قد فوضت الجواب إليه ، ونمثل على ذلك داخل خطابات برلماني حزب الاستقلال بما يلي:
لماذا تركتموه حبيس سطور المقالات الصحفية، حبس زحام الخطب؟
لماذا لم تحرروه؟
لماذا لم تطلقوا سراحه وتحولوه إلى ثروة حقيقية وإلى مناصب شغل بمئات الالاف؟
لماذا لم تترجموه إلى رخاء؟
إن استخدام أسئلة التبرير داخل هذه الخطابات السياسية مرده إلى طبيعتها الحجاجية، فبهذا السؤال تتم المطالبة بالحجة وببناء الموقف وتعليله، فطبيعة هذا السؤال لا تستدعي الحكم بل تستدعي دعائمه وتستوضح الأسس التي قادت إليه، وبذلك يعد هذا النوع من الأسئلة اختبار وقياس للحدود الإقناعية للموقف المتبنى.
إضافة إلى أن سؤال التبرير التي يطرحه المرسل معرض بشكل مستمر للمراجعة والشك، حتى يستقيم بناؤها الحجاجي، وعليه فالقضايا المطروحة داخل الخطابات لا تكتسب مصداقياتها، ولا تصبح متقاسمة بين المرسل والمتلقي، أو ملزمة لأحدهما حتى تجيب عن مطالب التبرير التي يعلن عنها الآخر إزاءها.
ب- السؤال المصحوب بأفعال الرأي:
ومن بين الخصائص التي يمتاز بها الاستفهام في الخطابات السياسية، ورودها مصحوبة بأفعال الرأي مثل:
(ظننتم)، في قول فؤاد القديري موجها الخطاب لرئيس الحكومة: “أو ظننتم أنكم بالإساءة لحزب الاستقلال ستغطون عجزكم؟.”
(واعون)، موجها الخطاب لرئيس الحكومة: “هل أنتم واعون بما أقدمتم عليه؟.”
(عملت)، في نفس الخطاب كذلك: “ماذا عملت أيديكم وسواعدكم وعقولكم؟.”
(تركتموه)، في قوله كذلك لرئيس الحكومة: لماذا تركتموه حبيس سطور المقالات الصحفية؟
(تعاملتم)، لماذا تعاملتم كحكومة بدهن خالٍ؟
إن ارتباط السؤال مع فعل الرأي، يؤكد على أنه استفهام “موقفي” يتعلق بإثبات موقف و إعلان ادعاء بخصوص القضايا المطروحة.
وبالتالي يحقق السؤال قيمته الإقناعية، ومن خلال توظيفه يستلزم الحصول على موقع وموقف معينين تجاه موضوع الحوار.
ج- مقصديات السؤال:
يؤدي الاستفهام داخل خطابات فؤادي القديري السياسية أغراضا أخرى تفصح على القوة الحجاجية التي يمتلكها، ومن بين أغراض الاستفهام التي يمكن جردها هي:
1. سؤال الاستنكار
2. سؤال التوريط
1. الاستنكار:
يحتل سؤال الاستنكار مكانة مهمة داخل خطاب فؤاد قديري، ويمكن التدليل على حضورها في خطاباته من خلال الأمثلة التالية:
لكن ماذا يعني هذا الرقم؟
ماذا يمثل هذا الرقم مقارنة مع الميزانية العامة للدولة؟
ماذا يمثل بالنسبة للناتج الداخلي الخام؟
من خلال هذه الأمثلة يتضح أن سؤال الاستنكار تم توظيفه لتهييج الشك بخصوص المواقف التي يتبناها خصمه، كما يسعى من خلال هذه الأسئلة لإرباكه وإزعاجه.
كما أن لسؤال الاستنكار أبعاد حجاجية كالتشهير بأخطاء الخصم، كي يعلم الحضور مدى فداحتها، ويحس الخصم بالارتياب.
2. التوريط:
إذا كان غاية وهدف الخطاب السياسي هي الإلزام، فهذا لا يتأتى إلا عن طريق قطع الخصم، لتصبح بذلك العملية الحجاجية عملا يتوخى إرباك الآخر، ويعد سؤال التوريط من بين الاستفهامات التي تتوخى الزج بالخصم في حالة حرجة مراهنة على ألا يتخلص منها، أو على الأقل يخرج منها بشكل سيء، وعليه فهذا النوع من الاستفهامات هو بمثابة مصائد، تجر الخصم إلى اتجاه معاكس لاعتقاده، فيصبح محاجج ضد أفكاره دون أن يعلم أو يحس بذلك.
إن الاستفهام يحضى بوضع مركزي لا محيد عنه داخل خطابات المستشار البرلماني فؤاد قديري، بحيث يشكل الوسيلة الأكثر استخداما، كونه المحرك للسجال والاستدلال والتوليد، ويصاحب المخاطِب في جميع أطوار خطابه من بدايته إلى نهايته.
خاتمة:
يتجلى الإقناع في الخطاب السياسي من خلال التوظيف الحجاجي للاستفهام، الذي يتحول عن دلالته الحقيقية ويتجاوز حياده ليصبح أداة لإيقاع الطرف الآخر، أو استدراجه، كما كشف لنا الاشتغال على الخطابات السياسية للمستشار البرلماني أن الاستفهام يحضى بمركز أساسي لا محيد عنه، بحيث يشكل الوسيلة الأكثر توظيفا، كونه العنصر الذي يحرك أطوار المحاججة، و يرافق الخطاب السياسي في مختلف أطواره، كما أنه يحمل في كنفه مقصديات إقناعية كالاستنكار والتوريط.